المقاومة شمال غزة: كل الوسائل وصولاً للعمليات الاستشهادية
العربي الجديد -

دبابة إسرائيلية عند الحدود الشمالية للقطاع، 29 مايو 2024 (مصطفى الخاروف/الأناضول)

تأخذ المعارك العسكرية شمالي قطاع غزة، بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، شكلاً مختلفاً مع دخول العملية البرية في هذه المنطقة، الشهر الثالث على التوالي في ظل حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع، المتواصلة للشهر الـ15. ومع اشتداد وتيرة المعارك التي تخوضها الأذرع العسكرية للمقاومة، وتحديداً كتائب القسام وسرايا القدس، ذراعا حركتي حماس والجهاد الإسلامي العسكريتان، فإن الأشكال الجديدة لهذه المعارك، لا سيما في شمال غزة المحاصر، تعكس الواقعية التي عليها الحرب في ظل غياب الإسناد العسكري لقوى المقاومة.

وتعبّر إعلانات الأذرع العسكرية للمقاومة عن واقع الميدان المتمثل في حضور كل أدوات الاشتباك والعمل العسكري خلال العمليات، والتي كان آخرها الإعلان بوضوح عن تنفيذ عملية طعن ثم الإعلان عن عملية استشهادية بحزام ناسف في صفوف قوة إسرائيلية راجلة، يوم الجمعة الماضي، بمخيم جباليا للاجئين الفلسطينيين شمالي القطاع. بالإضافة إلى ذلك تحضر عمليات القتال المعتادة التي تقوم على عمليات نسف المباني التي يوجد بها جنود الاحتلال، إلى جانب تلك التي تقوم على عمليات استهداف القوات الإسرائيلية عبر قذائف "ياسين 105" و"آر بي جي" وغيرها من الأسلحة التي تستخدم مضاداتٍ للدروع والأفراد إلى جانب العبوات الناسفة.

وعلى الرغم من مضي أكثر من 440 يوماً على الحرب في قطاع غزة، فإن المقاومة الفلسطينية ما تزال حاضرة وإن بشكل أقل، وتعمل بين فترة وأخرى على استخدام جميع السبل والوسائل المتاحة، والمحدودة في الغالب، لمواصلة القتال والمعارك في ظل استمرار الحرب. وتكتسب المعارك في شمال غزة رونقاً خاصاً، وسط اغتيال الاحتلال سلسلة من القياديين البارزين في كتائب القسام، على رأسهم قائد اللواء (الشمال) أحمد الغندور، والقادة الميدانيين وائل رجب ورأفت سلمان وأيمن صيام وغيرهم. غير أن المقاومة واصلت القتال في شمال غزة خلال مواجهتين بعد ذلك، هما توغل شهر مايو/أيار ويونيو/حزيران 2024، والتوغل الأخير الذي بدأ في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، والذي يتواصل للشهر الثالث على التوالي. وتستند المقاومة إلى استراتيجية ترتكز على سياسة "ترشيد" المواجهات واتباع أسلوب حرب العصابات الذي يقوم على زمر قتالية محدودة تعمل على تنفيذ كمائن قاتلة في صفوف جنود الاحتلال وضباطه وآلياته.

وتعتبر عملية شمال غزة الأخيرة فارقة مقارنة مع غيرها من المعارك مع الاحتلال الإسرائيلي، إذ بلغ عدد قتلاه في المعركتين الأولى (أكتوبر 2023) والثانية (مايو الماضي) في شمال غزة نحو 20 قتيلاً وعشرات الإصابات، فيما اعترف الاحتلال في المعركة التي بدأت قبل أكثر من شهرين حتى الآن بمقتل 35 جندياً وضابطاً، بالإضافة لعشرات الإصابات في صفوفه. في حين تقول حركة حماس إن ذراعها العسكري قتل إلى الآن 60 جندياً وضابطاً في العملية المتواصلة. وتعكس الكثير من مقاطع الفيديو التي تنشرها كتائب القسام وسرايا القدس، الإمكانيات البسيطة التي تستخدمها المقاومة في الشهور الأخيرة، والتي يستند بعضها على مخلّفات الاحتلال عبر الهندسة العكسية لاستهداف جنود الاحتلال وقواته العاملة في الميدان وإيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر وهو ما تعكسه المعارك في جباليا، شمال غزة.

أحمد الطناني: تمارس المقاومة سياسة الاستنزاف الأقصى للاحتلال مقابل تقنين استنزاف قدراتها

نموذج متقدم لحرب المدن

يقول مدير مركز عروبة للأبحاث والدراسات الاستراتيجية، أحمد الطناني، إن المقاومة تخوض نموذجاً متقدماً من حرب المدن، الذي يستهدف إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في الجيش المقتحم لمخيم جباليا بدرجة أساسية، وعبره إلى مناطق شمال القطاع، إذ تختار المقاومة متى تضرب وكيف تضرب بحيث توقع أكبر قدر ممكن من الخسائر في قوات الاحتلال. ويضيف الطناني في حديث لـ"العربي الجديد"، أن نمط وأماكن كمائن المقاومة يؤكد أنها تشغّل عقدها القتالية (خلايا صغيرة من المقاومين) وفق قاعدة الاستنزاف الأقصى للاحتلال وتقنين الاستنزاف لقدراتها التسليحية التي باتت في أقصى درجات استنزافها بعد أكثر من 14 شهراَ من الحرب المستمرة والحصار المُشدد على قطاع غزة.

ووفق الطناني، فإن المقاطع المصورة الخارجة من مواقع القتال شمال غزة تؤكد العديد من المعطيات، أهمها أن المقاومة لا تزال تتمتع بقدرات القيادة والسيطرة والقدرة على الاستطلاع الاستخباري في الميدان وتحديد الأولويات العملياتية وأماكن الهجوم الأجدى. ويوضح أن ذلك يتحقق وفق اتصال مباشر بين قيادة العمليات والعقد القتالية ومن ثم التغذية الراجعة بالتبليغ عن النشاط العملياتي ونتائجه، وتوصيل المادة المصورة، لافتاً إلى أن كل هذا بعد أكثر من 75 يوماً من استخدام كل أدوات العدوان والقصف والتفجير والإجهاز على كل مقومات الحياة البشرية في شمال غزة.

ويشير الطناني إلى أن عمليات المقاومة الأخيرة، وخصوصاً عمليتا الطعن والعملية الاستشهادية في مخيم جباليا، بقدر ما تعكس حجم الاستنزاف في القدرات التسليحية للمقاومة ولجوئها لأدوات وأشكال أخرى للقتال والمواجهة واستنزاف قوات الاحتلال طالما بقيت متمركزة في الأحياء والأزقة، فإنها من جانب آخر تعكس شكل وطبيعة ما سيكون عليه الحال في حال قررت دولة الاحتلال فرض السيطرة العسكرية على قطاع غزة وتوسيع وجود جيش الاحتلال على الأرض وتوليه مهام ذات طبيعة مدنية تتضمن تواصلاً مباشراً مع السكان. ويرى الطناني أن العودة لنماذج الطعن والعمليات الاستشهادية يعكس نموذجاً مكثفاً حول حجم الثمن الدموي لكل يوم من أيام بقاء جيش الاحتلال على أراضي القطاع، وبالتالي استحضار شكل وطبيعة الانخراط الشعبي الأوسع في عمليات مقاومة شعبية تستنزف الاحتلال إلى حده الأقصى.

عمليات لافتة شمال غزة

من جانبه، يقول الكاتب والمحلل السياسي إياد القرا، إن ما يجري في مناطق القتال، شمال غزة المحاصر، هو أمر مثير للاهتمام بالذات مع استمرار الإبادة التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي للشهر الثالث على التوالي، فيما تتواصل عمليات المقاومة بكافة السبل. ويوضح في حديث لـ"العربي الجديد"، أن العمليات الأخيرة للمقاومة تعكس احتكاكاً مباشراً بين المقاومين وجنود الاحتلال على اعتبار أن الجيش منتشر وموجود في مناطق عدة في منطقة مخيم جباليا وشمالي القطاع.

إياد القرا: ما يحدث في جباليا يأخذ شكل الاحتكاك المباشر بين المقاومين والاحتلال

ويلفت إلى أنه من الواضح أن المقاومة تستخدم عمليات لم يسبق أن استخدمتها في مناطق أخرى مثل عمليات الطعن وعمليات التفخيخ والأحزمة الناسفة وهو دلالة واضحة على أن ما يحدث في جباليا يأخذ شكل الاحتكاك المباشر بين المقاومين والاحتلال. ويشير إلى أن ما يحدث ليس بالضرورة أنه يعكس حالة النقص في المعدات العسكرية أو التجهيزات بقدر عدم تطلّب هذا النوع من العمليات أن يكون السلاح المستخدم نوعياً وكبيراً وإنما الاعتماد على القرب من الجيش والاحتكاك به. وباعتقاد القرا فإن استمرار هذه الحالة في جباليا وحالة الخسائر، هي بمثابة عنصر ضاغط على الاحتلال، خصوصاً أنه من الناحية العملية لم يعد هناك أهداف في منطقة جباليا وشمالي القطاع سوى التدمير والمواجهة المباشرة، بعد أن هُجّر جزء كبير من المواطنين بالذات من منطقة جباليا وبيت لاهيا.



إقرأ المزيد