المحكمة الجنائية صدّقت أحرار العالم: هل ينجح "سور إسرائيل الدفاعي"؟
العربي الجديد -

نتنياهو يصل إلى الكنيست لعقد اجتماع، القدس المحتلة، 20 مايو 2024 (Getty)

"دراما في إسرائيل"، بهذا عنونت غالبيّة وسائل إعلام الاحتلال حملتها لشيطنة المحكمة الجنائية الدولية إثر إصدار الأخيرة مذكرات اعتقال بحق رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن الذي أقاله الأخير حديثاً، يوآف غالانت، بتهمة ارتكابهما جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية في غزة.

وبالنظر إلى أنّ الاحتلال طالما تمتع بنوعٍ من الشرعية الدولية للإمعان في جرائمه ضدّ الفلسطينيين، وتباهى بكونه "واحة للديمقراطية في صحراء الشرق الأوسط"، مروّجاً لمنظومته القضائية "المستقلّة والمهنيّة"، إلى جانب تقديمه لجيشه باعتباره "الأكثر أخلاقيّة في العالم"، فإنّ الضربة التي تلقاها هذه المرّة من أعلى هيئة قضائية في العالم وُجهت إلى "كعب أخيل"، أو بمعنى آخر إلى مكانة إسرائيل في العالم، معمّقة من انحدارها نحو ما يُعرّفه محللون إسرائيليون بـ"الدولة البرصاء"، وهو التعبير الذي يُقصد به تردي مكانتها لتصبح دولة منبوذة؛ إذ إن رأس الهرم بات مجرم حرب رسميّاً.

تبعات ما تقدّم واسعة النطاق، وبمعزل عن الجنون الإسرائيلي المُستعر حالياً، ثمّة جملة من الأسئلة عما يعنيه القرار بالنسبة إلى الاحتلال؛ أوّلها إن كانت إسرائيل مُلزمة بصلاحيات الحكم الصادر عن الجنائيّة الدوليّة. على ذلك يجيب الإسرائيلي متان غوتمان، أستاذ في القانون ومُحامٍ، وأيضاً محلل الشؤون القضائية في موقع صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبريّة، والخبير القانوني والإداري بجامعة رايخمن، بأنه على الرغم من أنّ إسرائيل لم توقع على ميثاق روما، الذي على إثرها أقيمت المحكمة الجنائية الدولية، فإنه إذا كان شخص قد ارتكب جريمة حربٍ على أراضي دولة عضو في الميثاق، وحتّى إن لم يكن هذا الشخص مواطناً بالدولة العضو، فإن للمحكمة صلاحية إصدار حكم ضده.

لتوضيح ما سبق، يلفت غوتمان إلى أن السلطة الفلسطينية انضمت في عام 2014 عضواً في ميثاق روما. وكما يدّعي، فإنه "منذ انضمام الفلسطينيين، هم يحاولون تطبيق القانون على إسرائيل"؛ إذ إنه منذ عام 2021 تحديداً، حددت هيئة قضاة المحكمة بالأغلبية أن للمحكمة الحق والصلاحيّة للبحث في مسألة جرائم الحرب في كل الأراضي الفلسطينية خارج الخط الأخضر، أي الضفة الغربيّة، وغزّة، والشطر الشرقي من مدينة القدس.

ليس القانون الصادر ضد نتنياهو وغالانت الأوّل من نوعه؛ فقد انضم الاثنان إلى "نادي الموصومين" كما يصفه غوتمان، الذي يضم "دكتاتوريين، ومجرمي حرب"، أصدرت المحكمة ضدّهم مذكرات توقيف شبيهة، مثل الرئيس السودانيّ السابق، عمر البشير، والجنرال الليبيّ محمود الورفلي، وجوزيف كوني وهو قائد "جيش مقاومة الرّب" الأوغنديّ، المسؤول عن "اختطاف عشرات الفتيان والفتيات من بيوتهم واستخدامهم جنوداً في جيشه، أو لأغراض جنسية". أمّا مذكّرة التوقيف الأخيرة ما قبل المسؤولَيْن الإسرائيليين، فكانت ضد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ومسؤولين روس آخرين، بتهمة "اختطاف أولاد وتهجيرهم من أوكرانيا".

أمّا بالنسبة إلى من عليه تنفيذ القرار، فهو كما يوضح غوتمان، ليس المحكمة الجنائية ذاتها؛ إذ إنها لا تملك صلاحيّة إنفاذ القانون، وليس لديها شرطة بإمكانها القيام بعملية الاعتقال الفعلية. وعملياً، فإنّ جميع الدول الموقّعة على ميثاق روما، مُلزمة بالمساعدة في تنفيذ الاعتقال وتسليم نتنياهو وغالانت. وثمة 124 دولة قد وقّعت على الميثاق، بضمن ذلك جميع دول أميركا اللاتينيّة، وتقريباً جميع الدول الأوروبيّة، وأستراليا، وكندا، ونحو نصف الدول الأفريقيّة. في المقابل، فإن الولايات المتحدة، الهند، والصين ليست جزءاً من هذه الدول.

ما تقدّم يعني وفقاً لغوتمان أن كل سفر لنتنياهو أو غالانت إلى واحدة من الدول الـ124 من شأنه أن يعرّضهما لخطر الاعتقال وتسليمهما للمحكمة الدوليّة. مع ذلك، فإنه كما يوضح "لا تتعاون دائماً الدول الأعضاء في الميثاق مع المحكمة"، وكمثال على ذلك، في عام 2015 شارك البشير في قمّة الاتحاد الأفريقي في جنوب أفريقيا، وخلال ذلك، طُلب منه المغادرة والعودة إلى بلاده، ولم يتعرض للاعتقال على الرغم من مذكرة الاعتقال الصادرة بحقه.

من الصحيح أنّ المذكرات تتعلّق بنتنياهو وغالانت حصراً، ولكن ما تداعيات ذلك على إسرائيل نفسها؟ طبقاً لغوتمان "في الماضي، صدرت أوامر بالاعتقال من المحكمة الدوليّة ضد حُكّام مستبدين ومجرمي حرب، غير أنّ أوامر كهذه ضد مسؤولي دولة ديمقراطية لها منظومة قضائية مستقلّة كإسرائيل هي سابقة خطيرة"، كما يؤكّد، معتبراً أنّ القرار يعبّر أيضاً عن "محاولة من المحكمة لإثبات أنها تحقق كذلك بشأن الدول القويّة".

المحكمة الجنائية تعمّق الضغط على الدول الغربية

لكن الأمر لا يقتصر على ذلك فحسب؛ إذ بحسب غوتمان، فإن إصدار الأوامر "من شأنه أن يفضي إلى ردود احتجاجيّة واسعة ضد إسرائيل في أنحاء العالم، وتعميق الضغط على الدول الغربيّة الحليفة لإسرائيل حتّى تفرض عقوبات على الأخيرة، بينها حظر توريد السلاح". علاوة على ذلك، فإن "الخشية" بالنسبة إلى إسرائيل كما يحدد الخبير القانوني هي أن "إصدار المذكرات سيعزز بشكل كبير ادعاءات مناهضي إسرائيل الذين يتهمونها بارتكاب جرائم حرب بغزة"، فقرار المحكمة يمثّل "ختم موافقة" على الاتهامات التي يكيلها الأحرار حول العالم لدولة الاحتلال.

ولكن مع كل ذلك، هل يعني إصدار المذكرات أنه ستقدّم لوائح اتهام؟ على ذلك يرد غوتمان بالقول إن "إصدار المذكرات جزء من مسار التحقيق، ولكنه أيضاً المرحلة الأولى في المسار القانوني أمام المحكمة الجنائية. فالطريق إلى تقديم لوائح الاتهام في المحكمة ضد المسؤولين الإسرائليين طويلة جداً"، علاوة على ذلك، وفقاً للقانون الدوليّ ثمة اعتبارات معيّنة تتصل بالجهاز القضائي الداخلي لإسرائيل، فهذه السلطة يُنظر إليها باعتبارها "مستقلة" وادعاءاتها بخصوص الاتهامات التي تلاحق إسرائيل بشأن غزة، قد تؤخذ قبل "التدخل" القانوني الخارجي.

القرار الذي اتخذه القضاة في وقتٍ سابق من اليوم، حددوا فيه أنهم لا يناقشون مسألة إذا كان لإسرائيل ادعاءات دفاعيّة، مثل الادعاءات التكميليّة، وتقرّر أن ادعاءات كهذه ستناقش لاحقاً، وليس في المرحلة السابقة لإصدار أوامر الاعتقال، ولذلك فإن إسرائيل بحسب الخبير "باتت ملزمة الآن بأن تواصل العمل على إنشاء "سور دفاعي" قانوني، وذلك من خلال إجراء فحص داخلي مستقل، لمواجهة المراحل المستقبلية في المحاكمة. فهل ستتمكن إسرائيل من تشييد هذا السور، وحكومتها متهمة من قبل مواطنيها أنفسهم، وجمعيّاتها "الحقوقية"، بأنها منذ تبوّئها السلطة تخوض "انقلاباً قضائياً"، من شأنه أن يخلّ بالتوازن الذي حكم العلاقة بين السلطات، التشريعية والتنفيذية والقضائية؟



إقرأ المزيد