هدى سفيان سعيد البغدادي: لن أعود كما كنت (7)
العربي الجديد -

من المشاهد المتكرّرة وسط الحرب المتواصلة على قطاع غزة (فرانس برس)

هَذِه شهادَاتٌ لِناجِين وناجياتٍ من الحرْب فِي قِطَاع غَزَّة اِلتقيْتُهم فِي البرْزخ. حِكايَاتٌ مَسمُولةٌ بِالْأشْواك تُحَاوِل التَّحْديق فِي الفاجعة، سِلْسلةُ قِصص توْثيقيَّةٍ تَبحَث فِي ثِيمة النُّقْصان. هُنَا بشر فَقدُوا كُلّ شَيْء: عائلاتهم، بُيوتهم، أطْرافهم، أحْشاءهم، قطعًا مِن اللَّحْم اِعْتادتْ أن تَكسُو عِظامَهم، حَوَاسّ زوَّدتْهم بِهَا البيولوجْيَا لِالْتقاط معْلوماتٍ عن العالم الخارجيِّ، وَرقَة تِينٍ توارِي سَوأَة خَطِيئَة لَم يقْترفوهَا، وَلغَة مُتماسكة لَم يُصبْهَا مَا أَصَاب أصْحابهَا مِن تشظٍ وَشَتاتٍ واسْتحالةٍ إِلى أَشلَاء مُتناثرة. قِصص النُّقْصان هَذِه؛ نُقْصان الأجْساد مِن أعْضائهَا، الخريطة مِن تضاريسهَا، التُّرْبة مِن بقْلهَا وقثَّائهَا وزيْتونهَا، البحْر مِن أسْماكه، القصائد مِن وزْنهَا وقافيتهَا، المنْظومة التَّعْليميَّة مِن أساتذتهَا وتلامذتهَا، المشافي مِن حَبَّة دَوَاء، قِصص تُحَاوِل الاكْتمال عَبْر روِي النُّقْصان، صَوْت الضحِية - التِي لَم تَعُد تَملِك غَيْر ذاكرتهَا فِعْلاً لِلْمقاومة - لِجَعل اللغَة البشريَّة الحسِّيَّة قَادِرة على تَجسِيد الألم أو النَّظر إِلَيه، إِنَّها مُحَاولَة لِرؤْية الإبادة مِن وُجهَة نظرٍ خَاصَّةٍ بِلحْظةٍ مُعَينَةٍ تَبحَث فِيمَا حدث لِفلسْطينيِّي غَزَّة بَعْد السَّابع مِن أُكتُوبَر.

هذهِ الشهادات التي تكتُبُها الروائيّةُ سمر يزبك وينشرُها "العربي الجديد" على حلقاتٍ ستصدُرُ لاحِقاً في كتابٍ يحمِلُ اسمَ "ذاكرة النّقصان".

كانت سخيَّةً بدموعِها، وكانت أسْخى ما تكونُ حينَ تتذكَّرُ أخويْها: يحتقِنُ وجهُها، تتشنَّجُ ملامِحهُ، ترْتجفُ تضاريسُهُ، ويُسارعُ منديلُها يُلمْلمُ قطراتِ الدموعِ المُنْسكبةِ. ولو أنَّني كتبتُ عبارةَ "الحمدُ للهِ" كلما قالتها لكانَ عليَّ أنْ أُثْبتها بعدَ كلِّ جملةٍ. اسمُها هُدى سُفيان سعيد البغدادِي، في الثَّالثةِ والثَّلاثينَ، وقد أكْسبها إيمانُها هذا قوَّةً فريدةً.

حقيبةٌ سريعةٌ لنزوحٍ طويلٍ

يومَ الجمعةِ، السَّادسِ من أكتوبرَ، كنَّا في منزلِنا في تلِّ الهوى نُقيمُ حفلةً بمناسبةِ تخرُّجِ أخي. مضتِ العائلةُ بعدها إلى النومِ، أمّا أنا فكان عليَّ العودَةُ للعملِ على مشروعٍ جامعيٍّ. صحيحٌ أنَّ لديَّ شهادةَ مُعلّمِ صفٍّ، لكنِّي أدرسُ الآنَ الهنْدسةَ المعماريّةَ. السّادسةُ والنّصْفُ صباحاً صحا الجميعُ على صوتِ الصواريخِ التي أطْلقتْها حماسُ، وبقيَ علينا أن ننتظرَ الرّدَّ الإسرائيليَّ. حسبْنا أنّهُ سيكونُ قصْفاً لن يتعدّى بضعةَ أيامٍ، لم نتخيّلْ ما يُخبّأُ لنا، لذا قرَّرْنا البقاءَ. ثمّ إلى أينَ سنذهبُ؟ كيف نتْركُ بيوتَنا؟ لمن نتركُها؟ اشتدَّ القصفُ، أحاطَتْ بنا الأحزمةُ النَّاريَّةُ التي جعلت بيتَنا يهتزُّ ونهتزُّ معه، نزحَتْ أختِي مع زوجِها وأولادِها الأربعةِ من منطقةِ أبراجِ المخابراتِ وأتَوا ليُقيمُوا معنا، ولم نكن لِنُغادرَ لولا اتصالٌ جاءَنا من أَخِي. هو يُقيمُ في تركيا، اتَّصلَ بنا وأصرَّ علينا أن نخرجَ، قال إنَّ الأمرَ لن يقفَ عندَ القصفِ، سيكون اجتياحًا برّيًّا، سيقتحمُونَ، لذا لا بدَّ أن نُغادرَ. لم يعُدْ لديْنا خيارٌ، تركْنا البيتَ في عشرِ دقائقَ، جهّزْنا حقيبةً صغيرةً للجميعِ وضعَ فيها كلُّ واحدٍ منا قطعتيْنِ من ثيابِه الداخليةِ وخرجْنا. لم نكن الوحيدين، الناسُ يملؤُونَ الشوارعَ والقصفُ مستمرٌّ وأربعُ سياراتٍ تابعةٍ للصليبِ الأحمرِ موجودةٌ في المكانِ. اكتشفنا أنّهم يُريدُونَ منّا الخروجَ في قوافلَ صوبَ الجنوبِ وفقَ أوامرِ الإسرائيليينَ. لم يكنْ الناسُ راغبينَ في ذلكَ، لكنْ ما العملُ والقصفُ لا يتوقفُ وبيوتُنا تتهدَّمُ أمامَ عيونِنا والمجازرُ في كلِّ مكانٍ؟ الموتُ يَنزلُ علينا من السماءِ، وقريبًا سيأتينا من الأرضِ مع بدءِ الاقتحامِ البريِّ. وماذا عن الأطفالِ؟ أرْغمَنا الإسرائيليونَ على الخروجِ، أرْضَخُونا لهم. لي أختٌ تسكنُ في خان يونسَ، وجدّةٌ في رفحَ. نسيتُ أن أخبرَكَ أنَّ لي ستةَ إخوةٍ وأربعَ أخواتٍ، منهم من هو مُتزوّجٌ ولديهِ عائلةٌ، ومنهم من هو مُسافرٌ. مضيْنا إلى دارِ الجدَّةِ في رفحَ. هناك وجدْنا أنفسَنا تحتَ الخطرِ نفسهِ. ها نحنُ تركْنَا بيوتَنا لكنَّ القتلَ لم يترُكْنَا. بِتْنا في رفحَ ننامُ ونصحُو على أصواتِ القصفِ وأسماءِ المجازرِ وأعدادِ الشهداءِ. أين نهربُ؟ نرمِي أنفُسَنا في البحرِ؟ يُريدونَ قتلَنا عن آخرِنا، هذا أكيدٌ. في كلِّ مرةٍ أغمضْتُ فيها عينَيَّ خِلْتُها تكونُ المرّةَ الأخيرةَ. سلَّمْنا أمرَنا للهِ.

وسط الدمار الذي خلّفته الغارات الإسرائيلية في تلّ الهوى بمدينة غزة (لؤي أيوب/ Getty)
في بطنِ الحوتِ

في دارِ جدتي أقمْنا في الطابقِ الأرضيِّ من مبنًى من ستّةِ طوابقَ. لم يكنْ الوضعُ سهلًا في رفحَ، لا ماءَ، لا كهرباءَ، الأسعارُ مرتفعةٌ، لكنَّنا تدبَّرْنا أمورَنا وللهِ الحمدُ. لا أزال أذكرُ حالَنا ليلةَ قصفِ المبنَى، ليلةَ الحادي والعشرينَ من أكتوبرَ. في البدايةِ فرشْتُ لي ولابني ذي السنواتِ الأربعةِ في صالةِ البيتِ مُحاولينَ النومَ. بعدها أتَت أُخْتي مع أولادهَا للانضمامِ إلينا. ثمّ أتى أخي وذهبَ. بعد ذلك حملْتُ ابني وذهبتُ إلى غرفةِ جدَّتِي. كلُّ واحدٍ منّا أخذَ ينامُ قليلاً في غرفةٍ قبل أنْ ينتقلَ إلى غرفةٍ ثانيةٍ، كأنَّا نهربُ من الموتِ. في غرفةِ جدَّتِي دعوتُ بدعاءِ سيدِنا يونسَ عليه السلامُ لمّا كان في بطنِ الحوتِ، وكرَّرْتُ الدعاءَ حتّى صارتِ الساعةُ الثالثةَ فجرًا ولم أنمْ. ذهبْتُ لأطمئنَّ على إخوتي في غرفتِهِمْ ووجدتُهم نيامًا. جلستُ على كرسيٍّ، قلتُ سأبقى كذا وأقرأُ القرآنَ. اعتقدتُ أنّي أَحْميهمْ بدعائي وقراءتي. يبدو أنّني غفوْتُ قليلاً دون أن أشعرَ، وحين صحوتُ وجدتُ نفسي وسطَ الرُّكَامِ. لم أشعرْ بشيءٍ ولم أسمعْ صوتَ قصفٍ. صحوتُ ووجدتُ نفسي بين ركامٍ في ظلامٍ يحملُ صُرَاخَ إخوتي ورائحةَ بارودٍ خانقةٍ. لعلَّ الساعةَ كانت الرابعةَ. دائماً يقصفونَ حين يكونُ الناسُ نيامًا. سقطَ السقفُ على أولادِ أخِي الثلاثة وقتلَهُمْ فورًا.

لمحْتُ أخيلَةَ إِخْوَتِي جالسةً على الكنبةِ، وبدأتُ البحثَ عن ابني. أتى رجلٌ لِيُسعفَني، كانت الشَّظايا في كلِّ جزءٍ من جسدِي. أخذتُ أصْرخُ: لا تُسعفُوني! أسعِفُوا أهْلي! في الشّارعِ لم أشاهدْ إلّا جُثثَ الناسِ مرميّةً في كلِّ مكانٍ. أخرجُوا من المبنى أشْلاءً وجُثثاً مُمزَّقةً، رأيتُهم يُخْرجُونَ خالي وقد استشهدَ، رأيتُ ابنةَ أختي وابنةَ خالي أحْياءً. انشغل فكري بإحصاءِ الخسائرِ. كنَّا أربعةً وعشرينَ شخصاً، وبقيتُ أتَلفّتُ حولي بَحثاً عن ناجينَ من العائلةِ، وحينَ رأيتُ ابني ضممْتُهُ وأسعفُونَا إلى مشفى أبو يُوسف النّجار. نُسمّيهِ مشفىً، لكنّهُ في واقعِ الأمرِ أقربُ إلى مستوصفٍ. هناك نظرُوا إلى جُروحي وتبيّنَ لهم أنّها غيرُ خطرةٍ، ومن شُعوري بالعطشِ شربتُ الماءَ كأنّي لم أشْربْهُ منذ سنواتٍ. رأيتُ أُمّي. بدتْ لي في حالٍ من الصّدمةِ شديدةٍ. بدتْ مثلَ تمثالٍ حجريٍّ بعيْنَيْنِ جامدتيْنِ. رأيتُ أختي، كان رأسُها مُصابًا وينزِفُ وهي تظلُّ تسألُ عن أولادِها. همسَ لي زوجُها محمود العرعير: الأولادُ ماتُوا. قالها وسكتَ. لَانَا، اثنتا عشرةَ سنةً، مُحمَّدُ، عشرُ سنواتٍ، زَيْدٌ، ستُّ سنواتٍ، أولادُ محمود العرعير وهَلا البغدادي قُتِلُوا جميعًا على إثْرِ القصفِ. كذبْتُ على أُختي هَلَا وقلتُ لها: هم بخيرٍ. أينَ هم؟ أنقذَتْني مُمرضةٌ من مأْزقِ الإجابةِ، جاءَتْ لتقولَ لي إنّ أخويَّ وضعهُما صعبٌ وسيتمُّ نقلهما إلى المشفى الأوروبيِّ. قلتُ: أذهبُ معهما. خرجْنا في ثلاثِ سياراتِ إسعافٍ، كانت تحملُ مع أخويَّ كُلًّا من خالي وابن خالي وأُختي. كانت زوجةُ خالي في حالةٍ جُنونيّةٍ، ظلَّتْ تقولُ إنَّها كانت تَكْشطُ اللّحمَ، تُزيلُهُ عن الحجارةِ، كانت تُلمْلمُ الأشلاءَ واللّحمَ والدمَ المُتخثِّرَ من بينِ الركامِ ولا تَعرفُ من أصحابِها ولمَن يعودُ كلُّ جزءٍ منها. صرخْتُ: مُستحيل! مستحيل أن يكونوا تحوّلُوا إلى أشلاءٍ! مستحيل أن نموتَ هكذا! لا أعرفُ لمَ قلْتُ هذا، فأنا على يقينٍ من أنّها صادقةٌ فيما تقولُ.

فورَ وصولِنا إلى المشفى الأوروبيِّ أدخلُوا خالي وأخي عبدَ اللهِ إلى غرفِ العملياتِ، وظلَّ البقيَّةُ في قسمِ الاستقبالِ. المشفى يُعاني من نقصِ الأطباءِ والمعداتِ والأدويةِ، من نقصٍ في كلِّ شيءٍ. حالةُ أخي الآخر بَرَاءَ كانت مُزْريةً: اختفى الجزءُ الأيمنُ من وجهِهِ، طارتْ أصابعُهُ، انزرعتِ الشظايا في أنحاءِ جسدِهِ، برزَتْ عظامُهُ، انهرستْ يداهُ، تمزَّقَ وهو حيٌّ. كذا كان حينَ رأيتُهُ، لكنَّهُ قال بهدوءٍ: إيدي بتوجعني. كلمتانِ أثبتتا لي أنَّهُ حيٌّ. سيظلُّ كذا ثلاثةَ أيامٍ، كان وضعُهُ صعبًا، لكنَّهُ أخفُّ -كما أكَّدَ الأطباءُ- إن قُورِنَ بمصابينَ آخرينَ، بوسعهِ الانتظارُ إذن. في ظروفِ شُحِّ المواردِ البشريَّةِ والطبيَّةِ يَضْطَرُّ الأطباءُ إلى الفرزِ والمفاضلةِ، أي اختيارِ الحالاتِ الأكثرِ حرجًا وحاجةً إلى تدخلٍ فوريٍّ. شيءٌ صعبٌ. أمّا إبراهيمُ، وهو ابنُ خالي الآخرِ وعُمره اثنتا عشرة سنةً، فقد صار وحيدًا بعدَ أن استُشْهِدَتْ عائلتُهُ كلُّها. بلغَ شهداءُ عائلتنا تسعةً.

أخرجُوا أخي عبدَ اللهِ من غرفةِ العملياتِ مُسْرِعِينَ به إلى العنايةِ المشددةِ. رأيتُهم يركضونَ به وقد تَدَلَّى لسانُهُ من فمِهِ وضماداتُهُ ترْشحُ دمًّا سقطْتُ على الأرضِ. بقيتُ بجانبِ أخي براءَ. ارتفعتْ درجةُ حرارتِهِ إلى أربعينَ، استمرتْ كذا طيلةَ شهرٍ. كان جسمُهُ مُمَزّقًا كما أخبرتُكَ، وأُصيبَتْ جروحُهُ الكثيرةُ بالتهاباتٍ، وخَسِرَ الكثيرَ من دمهِ. ومع قلةِ الأدويةِ يُصْبِحُ من الطبيعيِّ أن تظلَّ حرارتُهُ مرتفعةً. كنتُ أَنْظرُ إليه ولا أُصدِّقُ ما تراهُ عينايَ، لا أكَادُ أُمَيِّزُ فيه أخي الذي أعْرفُهُ. سقطَ الصاروخُ قريبًا منه على ما يبدو، فمزَّقَهُ ولم يقتله. ذهبتُ إلى الطبيبِ سعد السّلوت، أخبرتُهُ أنَّ أخي يضيعُ من بينِ أيدينا، حرارتُهُ مرتفعةٌ ولونُهُ بات أزرقاً. نقلُوا لهُ أربعَ وحداتِ دمٍّ وأعطُوه حقنةَ سيتامول في الوريدِ لخفضِ حرارتِهِ. يستغْرقُ نقلُ وحدةِ الدمِ ساعتينِ، وقد بقيتُ تلكَ الساعاتِ بجانبِه أضعُ له الكماداتِ. في مرةٍ هدَّني التعبُ وأنا بجانبِه فغفوتُ قليلاً لأصحو من كابوسٍ مُفْزعٍ جعلني أهرعُ إلى قسمِ العنايةِ لأتفقّدَ أخي عبدَ اللهِ. هكذا كنتُ في المشفى، أتنقَّلُ بين أخويَّ اللذينِ صِرتُ مُمرضةً لهما بسببِ نقصِ الطاقمِ التمريضيِّ. وكنتُ طيلةَ الوقتِ في حالةِ قلقٍ دائمٍ على أولادي، أكبرُهم في الثالثةَ عشرةَ من عمرِه. بقوا في مخيمِ المواصي في رفحَ مع أبيهم. هم بخيرٍ، أقولُ لنفسي، سيكونونَ بخيرٍ، ولا أستطيعُ أن أتركَ المشفى. أمّي التي لم أُخْبِرْها باستشهادِ خالي وزوجتهِ احتفظتْ بصمتِها الحجريِّ، أدْركَتْ ذلك وحدَها. عرفْتُ ذلك لمّا رأيتُها تنزلُ حين أرادُوا دفنَ شهداءِ العائلةِ. نزلَتْ وصلّتْ عليهم وودّعتْ أخاها في صمتٍ. وأخيرًا، بعدَ طولِ انتظارٍ، أُدْخلَ بَرَاءٌ غرفةَ العمليَّاتِ. قامُوا بتَنظيفِ جُروحِهِ، واستخراجِ الشَّظايا من جِسمهِ، وبَتْرِ أصَابعِهِ. في البدايةِ شعرتُ بالفرحِ لأنّهُ لم يخسرْ طرفًا كاملًا، وأنَّ المسألةَ اقتصرت على الأصَابِعِ، لكنْ بعدَ ذلكَ توالتْ عمليَّاتُهُ، إذْ كانَ لديهِ عمليَّةٌ جديدَةٌ كلَّ يَومٍ. بينما القصفُ مستمرٌّ، وتوافُدُ المصابينَ إلى المشفَى لا يتوقّفُ، وصارَ علينا أنْ ننتظِرَ دورَهُ في كلِّ مرةٍ. امتلأَ المشفَى بالجُثثِ، بالنَّازحينَ، بالجرْحى ومرافقيهم، تكوَّمْنا فوقَ بعضِنا بعضًا، بلْ جاءتْ أيّامٌ كنتُ أنامُ فيها مع أُمّي تحتَ سريرِ بَرَاءٍ.

تدهورَت صحةُ بَرَاءٍ فجأةً، تعفَّنَتْ جروحُهُ، وصارَتْ ضِماداتُهُ سوْداءَ، وفي كلِّ يَومٍ أُغيِّرُ مفارشَهُ فأجِدُها مُشبعةً بالدَّمِ. بلْ إنِّي في إحدى المَرَّاتِ استيقظتُ على قطراتِ دمٍ تنْقطُ من سريرِهِ على الأرضِ، كانَ بَرَاءٌ ينزفُ بغزارةٍ، كانَ غارِقًا في دمهِ. لم تعُدْ وحداتُ الدَّمِ متوفِّرةً، وصارَ عليَّ البحثُ عن مُتبرّعينَ، ولا تزالُ أمِّي مثلَ تمثالٍ حجريٍّ بِعينينِ جامدتيْنِ. كما أنَّي لم أسْتطعِ الاكتفاءَ برعايةِ أَخي مُتجاهلةً المرضَى الآخَرِينَ. كيفَ بُوسعِي أنْ أرَى مُصابينَ لا يُوجدُ من يُرافقهُمْ أو يعتنِي بهمْ وأقفَ مكتوفةَ اليدينِ؟ وجدتُ نفسي أتنقَّلُ بينَ هذا وذاكَ. صرْتُ مُمرِّضةً للجميعِ، وهذا العملُ مع قلَّةِ النّوْمِ والقلقِ جعلنِي في إنْهاكٍ دائمٍ.

في يومِ التاسعِ والعشرِينَ من أكتوبرَ ذهبْتُ إلى قسمِ العنايةِ لتفقُّدِ عبدِ الله منقبِضةَ القَلْبِ. لعلَّ انهماكي الدَّائمِ ببَرَاءٍ وبتأمينِ وحداتِ الدَّمِ شغلنِي قليلًا عن عبدِ الله. سلّمْتُ عليهِ وكلَّمتهُ، ثمَّ طلبَتْ منِّي الطَّبيبةُ الخروجَ. رفضتُ ذلكَ، كنتُ مُصرَّةً على البقاءِ بجانبهِ. بقيتُ أقرأُ القرآنَ بجانبهِ وأسألُ اللهَ أنْ يرحمهُ بالموتِ. تخيَّلي! واللهِ إنّي أُحبُّهُ حبًّا كبيرًا لكنّي تمنَّيتُ لهُ الموتَ. كانَ موضوعًا على جهازِ التّنفُّسِ الصّناعيِّ، وضغطُ دمهِ ينْزلُ، ولونُهُ يزرقُّ شيئًا فشيئًا. لم يعُدْ يُشبهُ أَخي الوسيمَ زينَ الشَّبابِ. أصرّتِ الطّبيبةُ مجدّدًا على خُروجِي. فهمْتُ من إصرارِهَا أنَّهُ يُحْتضرُ لكنّي رفضْتُ بشدَّةٍ. بقيتُ بجانبِهِ أُراقِبُ شاشةَ المونيتور إلى أنْ أطلقَ الجهازُ صفيرَهُ. حينَ أتى الطَّبيبُ ليُغطِّي وجهَهُ صرخْتُ فيهِ: لا تخنقْ أخي! كانَ ماتَ وكلُّ الذي أُفكّرُ فيهِ هو أنَّهُ سيخنقهُ كذا. بقيتُ واقفةً أُدلّكُ لهُ جسمَهُ وأنا أُردِّدُ: الحمدُ للهِ، الحمدُ للهِ.

تهجير متواصل في رفح (عبد الرحيم الخطيب/ الأناضول)
في قِسْمِ الأطْفالِ

لم يكنِ المشفَى مكانًا آمنًا، ولا المدرسةُ. خرجتُ مرّةً لشراءِ البُنِّ، ملْعقةٌ منهُ بعشرةِ شِيكلاتٍ، ورأيْتُهم يأْتُونَ بضحايا القصفِ على مدرسةٍ تُؤْوِي نازِحِينَ. وقفتُ عندَ مَدخلِ قسمِ الطَّوارئِ أُراقبُهمْ يأتونَ بالجرحَى، والقتْلى، والأشلاءِ البشريَّةِ الموضوعةِ في أكيَاسٍ ورقيَّةٍ. كانَ المشْهدُ فَظِيعًا، في ذلكَ القصفِ قُتلَ خَمْسةَ عشرَ شَخصًا، وأُصِيبَ العشراتُ. من سوءِ حظّي أنَّ امتلاءَ المشفَى جعلَ الأَطبّاءَ يضعونَ أخي بَرَاءً في قسمِ الأطفالِ. كانَ من القاتلِ أنْ تجِدي نفْسكِ مع بقايا أجْسادِ الأطفالِ تَعيشينَ مأساتهُمْ عن قُرْبٍ. أَذْكرُ بِنتًا من آل الكدْريِّ، كانَ جسْمها محرُوقًا بالكاملِ، ترْشحُ منهُ إفرازاتٌ خضْراءُ وبيْضاءُ. كلُّ ذلكَ من القصفِ، يقْصفُوننَا بسمومٍ جديدةٍ لا نعرفُ طَبيعتهَا. بيسان ذاتَ السَّنواتِ الثَّماني بُتِرَ طرفاهَا السُّفليَّانِ. جلستُ مرَّةً على سريرِها أُواسيها، فما كانَ منها إلّا أنْ طلبَتْ منّي النُّهوضَ لأنّني أجلسُ على رِجْلِها وأزيدُ بذلكَ من ألمهَا. أصابني الذُّعرُ. كانتْ ساقُها مبتورةً! شعرْتُ بدوارٍ شديدٍ وارتجفَ جِسمي كلّهُ وأنا أنظرُ إليها. أعادتْ طلبها بتهذيبٍ: "خالتِي، قومي عن رِجْلِي، أنتِ بتوْجعِينِي!" نهضْتُ واعتذرتُ منها. بعدَ أيّامٍ، وأنا أُمرّضُها، أخبرْتُها ألّا تحزنَ، فاللهُ قد يُريدُ أحيانًا أنْ يأْخذنَا إليهِ على دُفعاتٍ. يعني مثلًا قد يأخذُ منّا يدًا أو رجلًا تسبقاننا إلى الجنَّةِ. رجلاكِ تنتظرانِكِ هناك، وستلْحَقينَ بهما بعدَ أنْ تَكبري. نظرتْ إليَّ مُبْتسمةً دونَ أنْ تَنْطقَ حَرفًا. صرتُ مُمرّضةً وداعمةً نفسيَّةً، جعلَني وُجودي في قسمِ الأطْفالِ قريبةً منهم، صرتُ أحاولُ تعليمَ الأطفالِ كيْفيّةَ التّعاملِ مع أجسادهم الجديدةِ النَّاقصةِ.

تعرفينَ أنّ عددَ القتلَى والجرحَى من الأطفالِ كانَ كبيرًا، ربّما يُشكّلونَ النّسبةَ العظمَى. وكانَ من المفاجآتِ لي أنّهم كانوا أقوياءَ، يتعاملونَ مع كلِّ ما يحْدثُ بثباتٍ وصرامةٍ. رأيْتُ هذا بأُمِّ عيني، كانَ شيئًا عجيبًا. منْ أينَ لهمْ هذه الشَّجاعةُ؟ من علّمهُم هذا الهدوءَ؟ كيفَ لا أرى منهم ردودَ أفعالٍ تُناسبُ أعمارَهمْ أو ما يُفترضُ أنْ تُناسبَها؟ أيُعقلُ أنّهم كبرُوا قبلَ الأوانِ؟ شاخُوا وهم أطفالٌ! كنتُ أَراهم هادئينَ في مُعظمِ الأحيانِ، مُمدَّدينَ على سُرُرهِم عاجزينَ عنِ الحركةِ بأجسادٍ فقدتْ أَطرافَها، لكنَّهُم ظلُّوا هادئينَ في غالبِ الوقتِ. أذكرُ أنَّ إبراهيمَ الصَّوالحي، وهو طفلٌ في الثَّانيةَ عشْرةَ، حينَ عَرفَ بموتِ أهلهِ اكتفى بقولهِ: الحمدُ للهِ. عبدُ الرَّحمنِ رضوان كانَ أيضًا النَّاجيَ الوحيدَ من عائلتِهِ. في القصفِ الذي طالَ دارَ أهلِهِ استُشهِدَ خمسونَ شخصًا وبقيَ هو. وصلَ إلى المشفى في الثَّاني عشرَ من كانونَ الثَّاني أذْكرُ ذلكَ لأنَّهُ اليومُ الذي كانَ يُفترضُ أنْ نَنقلَ فيهِ براءً منَ المشفى. حينَ سَمِعْتُ بقصَّتِهِ أَسرعْتُ إلى الغرفةِ المجاورةِ التي وضعوهُ فيها. كانَ يصيحُ منَ الألمِ، جِسمُهُ مَحروقٌ وبطنُهُ مفتوحٌ مع إصابةٍ في رأسِهِ. أتيتُ لهُ بأغطيةٍ وبَقيتُ يومينِ أَرعاهُ. في اليومِ الثالثِ قالَ لي: "بدِّي بيض". يا اللهِ كمْ فَرحتُ! سألتُ الطَّبيبَ وأَخبرني أنَّ بوسعهِ الأكل. كانَ الطَّعامُ قليلًا، ونحنُ جياعٌ، لكنْ كانَ بحوزتِي بيضتانِ. يَصعُبُ أنْ أَصِفَ الأمرَ لكِ. هما آخرُ بيضتينِ معنا، ونحنُ جياعٌ، وأمي قالتْ لي: وأخوكِ؟ قلتُ لها: لكنَّهُ طفلٌ! وأَكلَ البيضتينِ، ابتسمتُ لأوَّل مرّةٍ منذُ وقتٍ طويلٍ وأنا أراهُ يأكلُهما. هذا ما أظنُّهُ، ففي أعماقي شعرتُ بالألمِ والحزنِ لأنَّنا سنتركُهُ في اليومِ نفسِهِ. رأَتْ مرافِقةُ أحدِ المرضى مقدارَ اعتنائِي بعبدِ الرَّحمنِ فسألتني: هذا قريبُكِ؟ أَجَبْتُها: لا، ليس قريبي. قالَ عبدُ الرَّحمنِ: بلى! هذه خالتِي. لا أزالُ أفكِّرُ فيهِ، ولدٌ وحيدٌ بلا أُمٍّ ولا عائلةٍ.

صرتُ ممرِّضةً فجأةً. أَكثرَ ما يُثيرُ استغرابي هو أنَّني لا أزالُ أحتفظُ بعقلِي على الرغمِ من كلِّ ما رأيتُ. رأيتُ أشياءَ رهيبةً، كثيرٌ منَ الناسِ فعلوا، أشياءَ لا أستطيعُ الحديثَ عنها، بل لا أريدُ أنْ أفعلَ في يومٍ منَ الأيامِ، أُفضِّلُ أنْ أنساها. قدْ تكونُ إصابةُ "إيمان مسلم" أَسوأَ إصابةٍ رأيتُها. هي امرأةٌ ممتلئةٌ، في الثَّالثةِ والثَّلاثينَ، أتى بها أَخوها إلى المشفى. أذكرُها وأذكرُ اسمَها لأنَّ ما رأيتُهُ عندَها لم أَرَهُ في حياتِي. كانتْ يدُها اليمنى محفورةً، مَثقوبةً على شكلٍ دائريٍّ كأنَّ آلةً حادةً اقتطعتْ ذلكَ الجزءَ منْ كفِّها. رِجلاها أيضًا، بل إنَّ جِسمَها كلَّهُ كانَ مخروماً بدوائرَ وأنصافِ دوائرَ. شيءٌ غريبٌ. أيُّ سلاحٍ هذا الذي يَفعلُ مثلما يَقرضُ فأرٌ جوانبَ رغيفِ خبزٍ؟ في كلِّ حربٍ جديدةٍ يُجرِّبُ فينا الإسرائيليُّونَ أَسلحةً جديدةً. قمتُ بتمريضِها، ساعدتُ أخاها الذي يعملُ مُسعِفًا. كنا نُنظِّفُ لها جروحَها التي تَنْزُ قَيحًا ونغيِّرُ ضِماداتِها دونَ تخديرٍ. أَخوها رجلٌ جبَّارٌ، أَصرَّ على العنايةِ بها وتعقيمِ جراحِها بنفسِهِ، وكنتُ أساعدُهُ في ذلكَ. قالَ الجميعُ إنَّها ستموتُ خلالَ ساعاتٍ، لكنَّ اعتناءَنا بها جعلَها تصمدُ ثلاثةَ أشهرٍ إلى أنْ أَصابَها إنتانُ دمٍ شديدٌ وماتتْ. أكانَ فعلُنا هذا إنسانِيًّا؟ ألمْ يكنْ منَ الأَفضلِ أنْ نتركَها تموتُ بسرعةٍ ولا تُعاني هذه الآلامَ الشَّديدةَ طيلةَ ثلاثةِ أشهرٍ؟ لكنْ أكانَ بوسعِنا تركُ جراحِها تتعفَّنُ دونَ أنْ نفعلَ شيئًا؟ لا أعرفُ، حقًّا لا أعرفُ، ماتتْ في النِّهايةِ وارتاحتْ منْ عذاباتِها. كذلكَ عانى أخِي عبدُ اللهِ ثمَّ ماتَ، لكنْ في وسطِ ذلكَ الجنونِ كنتُ أقولُ لأمِّي: بلْ هو حيٌّ ونحنُ الميتونَ. نعم! صرتُ ممرِّضةً فجأةً، أغيِّرُ الضِّماداتِ وأزيلُ القيحَ وأُعقِّمُ الجروحَ متنقِّلةً منْ جريحٍ إلى جريحٍ. جَعلتني تلكَ التَّجربةُ قريبةً منَ الجسدِ البشريِّ حينَ يكونُ في وضعٍ مغايرٍ للوضعِ المعتادِ المألوفِ، فاكتسبتُ بذلكَ وجهةَ نظرٍ مختلفةٍ، صرتُ أرى وجودَنا مختلفًا، لنْ أعودَ أبدًا كما كنتُ. لا أدري أهذا شيءٌ جيدٌ أم لا، كلُّ الذي أعرفُهُ أنَّنا كنا سنُصابُ بالجنونِ لولا إيمانِنا باللهِ. الحمدُ للهِ.



إقرأ المزيد