أمواج بحر النعم: رحلة من يمم وجهه لمولاه – محمد غاني
الزمان -

د. محمد غاني
اغتسلت من جنابة الغفلة، وارتميت وسط أمواج بحر النعم، مستضيئئا بشمس النبوة من الوحي والسنة، وبقمر الاجتهاد والتدبر العقلي. أليست تلك أمارة المحجة البيضاء التي انفلقت بعصا النبوة للهروب من فرعون النفس الأمارة بالسوء والهوى؟ بلى، إنها علامة لاحت في أفق السالكين، وبرهان ساطع على يقظة قلبية بعد سبات طويل.

إن الاغتسال من جنابة الغفلة ليس إلا توبة، وهي بداية السير الروحي، حيث ينفلق بحر الجود من مدد الموجود لينجي الروح من فرعون الهوى. وقد أشار الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي إلى هذا المعنى العميق، إذ يرى أن الفناء ليس إلا يقظة من غفلة قد تستغرق عمر إنسان كامل.
فإذا زالت أغيار النفس، أشرقت أنوار القلب، واستحق السالك الدخول إلى حضرة النعم، عائدا بروحه إلى أصلها العلوي، إلى جنة المعارف. إن الهروب من فرعون النفس هو عين جهاد النفس الذي لا ينتهي إلا بالوصول إلى ساحل الأمان.

وفي هذا السياق، يصدح صوت ابن عطاء الله السكندري في حكمه العطائية مؤكدا أن:
الورد لا يطلب إلا من الوارد، ولولا وارد ما كان ورد، وأن الواردات الإلهية قلما تكون إلا بغتة، صيانة لها أن يدعيها العباد بوجود الاستعداد.

فاستضاءة القلب بشمس النبوة وقمر الاجتهاد هي محض وارد إلهي يلقى في روع العبد بعد أن أراح نفسه من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك.

هذا الغوص في أمواج بحر النعم يشبه رحلة الطيور التي وصفها فريد الدين العطار في منطق الطير، حيث يقطع السالك أودية سبعة، أولها وادي الطلب وآخرها وادي الفناء. وفي وادي المعرفة، تختلف مراتب السالكين كل حسب قدرته.
لقد كان شمس الدين التبريزي يرى أن الطريق إلى الحقيقة يمر من القلب لا من الرأس، وأن على السالك أن يواجه نفسه الأمارة بالسوء بقلبه. وهذا التحدي هو جوهر بحر المحبة الإلهية التي تغمر السالك، وتجعله يرى أن الطريقة التي يرى بها الله ما هي إلا انعكاس للطريقة التي يرى بها نفسه. و في انفسكم افلا تبصرون.

وفي سكر هذا العشق، يتجلى ابن الفارض، سلطان العاشقين، ليصف حال اليقظة التي هي أبلغ من يقظة الإغفاء، حيث لا غفلة كاملة. ففي هذا المقام، لا يرى العارف إلا الحقيقة المحمدية التي هي شمس النبوة التي استضاء بها القلب، فيتلاشى فرعون النفس أمام سلطان بحر المحبة.

فيا أيها السالك، إن المحجة البيضاء قد انفلقت، وبحر النعم قد استقبلك:
“فتوضأ بماء الغيب إن كنت ذا سر
وإلا تيمم بالصعيد أو الصخر”
(ابن عربي)
واجعل عصا النبوة دليلك، لتدرك أن الغفلة سجن الروح، واليقظة فضاء الوصال. إن تدبر نعم الله ثمرة ذكره، يفتح باب الواردات فتحا، لتتفجر عيون المعاني وسط أرض التوحيد، فيغمر ماء الغيب القلب حتى يفيض حبا وعبادة، فيرتقي العبد إلى أعلى مقام في مقامات المحبة و هي العبادة. سبحان من أسرى بعبده.



إقرأ المزيد