الزمان - 12/26/2025 1:06:58 AM - GMT (+3 )
حين تتحوّل الهجرة إلى مصيدة… كارثة الفلامنكو الصامتة في العراق
فاروق الدباغ
في كل خريف، تبدأ أسراب طائر الفلامنكو رحلتها الطويلة بحثًا عن الدفء والغذاء. تنطلق من مناطق بحر قزوين وأذربيجان، حيث يشتدّ البرد ويقلّ الغذاء، وتتجه جنوبًا عبر مسارات هجرة قديمة، لتصل إلى أهوار جنوب العراق. هناك، ومنذ قرون، كانت هذه الأهوار تمثّل محطة شتوية آمنة، يستقر فيها الطائر من الخريف حتى الربيع، ليستعيد طاقته قبل العودة شمالًا.
اليوم، لم تعد هذه الرحلة تنتهي بالراحة، بل بالموت.
الفلامنكو ليس مجرد طائر جميل يزيّن السماء. وجوده مؤشر علمي دقيق على سلامة المياه وتوازن النظام البيئي. الدراسات البيئية تشير إلى أن تجمعاته في الشرق الأوسط تعتمد على عدد محدود من المواقع الرطبة، ما يجعل أي خلل محلي ذا أثر إقليمي مباشر. خلال العقدين الأخيرين، سُجّل تراجع ملحوظ في أعداد الفلامنكو في المنطقة، وفي بعض المواقع انخفضت الأعداد بعشرات النسب المئوية بسبب الجفاف، وفقدان الموائل، والتدخل البشري. هذا الطائر يتكاثر ببطء، ويحتاج إلى سنوات ليبلغ النضج الجنسي، ولا ينجح في التعشيش كل عام، ما يجعل قتل الأفراد البالغة ضربة مباشرة لمستقبل النوع.
عندما تصل أسراب الفلامنكو إلى الأهوار العراقية، لا تجد حماية، بل شباك صيد.
يُصاد الطائر عمدًا وبشكل واسع من قبل بعض الصيادين، لا كحالات فردية نادرة، بل كممارسة متكررة. تُقدَّم تبريرات واهية، مثل اعتباره «طائر زينة» أو «مفيدًا في بيئة سيئة»، بينما الحقيقة أنه طائر مهاجر محمي ذو دور بيئي أساسي. بعد الصيد، يتحوّل الفلامنكو إلى سلعة: يُباع، وتصل لحومه إلى بعض المطاعم ليُقدَّم بديلًا عن الدواجن.
بهذا التسلسل، تتحوّل الهجرة الطبيعية إلى سلسلة استنزاف:
انطلاق من الشمال طلبًا للحياة، وصول إلى الجنوب حيث تُنصب الشباك، ثم سوق، ثم مائدة طعام.
الأرقام الميدانية تعكس حجم الخطر. المراقبون والمهتمون بالطيور في المنطقة يلاحظون اليوم أسرابًا أصغر، وفترات استقرار أقصر، ونسب نفوق أعلى مقارنة بما كان عليه الوضع قبل 10–15 عامًا. ومع استمرار الصيد خلال فترة الاستقرار الشتوي، تتسارع وتيرة التراجع، ما يرفع خطر الانقراض المحلي للفلامنكو في العراق ومحيطه.
هذه ليست مسألة صيد تقليدي أو فقر معيشي فقط، بل تجاريّة انتهاك بيئي تتم في ظل غياب رقابة فعّالة وصمت رسمي مقلق. الأهوار التي صُنّفت يومًا من أهم النظم البيئية في العالم تُترك اليوم بلا حماية حقيقية، بلا شرطة بيئية حاضرة، وبلا سياسة ردع.
الأخطر من الفعل نفسه هو تطبيعه. حين يُقتل طائر مهاجر محمي علنًا، وتُتداول صوره، ويُباع لحمه دون مساءلة، تتحوّل الجريمة إلى سلوك اعتيادي. الرسالة التي تصل للمجتمع واضحة: الطبيعة بلا قيمة، والاعتداء عليها بلا ثمن.
لكن تدهور البيئة لا يقف عند حدود الطيور. انهيار الأهوار يعني تدهور المياه، وتهديد الأمن الغذائي، وتفاقم المخاطر الصحية على الإنسان. الفلامنكو هنا ليس سوى أول إنذار مرئي لانهيار أوسع.
ما يحدث اليوم على مسار هجرة الفلامنكو ليس حادثًا عابرًا، بل تفكيك بطيء للتنوّع الحيوي، يُقاس في أعداد تتناقص وسماء تفقد ألوانها.
رحلة الفلامنكو نحو الجنوب كان ينبغي أن تنتهي بالدفء والراحة.
في العراق، تنتهي كثيرًا عند الشباك… ثم الصمت.
إقرأ المزيد


