هذا اليوم - 12/26/2025 1:03:33 AM - GMT (+3 )
بغداد اليوم – ترجمة
يضع تقرير تحليلي أصدره معهد "واشنطن ريبورت" الأمريكي لدراسات الشرق الأوسط صورة الحكومة العراقية المقبلة داخل معادلة معقّدة؛ ثلاثيّها الأساسي هو فساد متجذّر تحوّل إلى نمط حكم، وقطاع عام متخم بنحو 700 الف وظيفة جديدة في سنوات قليلة، واقتصاد مرتهن لسعر نفط يجب أن يقترب من 90 دولارًا للبرميل كي تبقى الموازنة واقفة من دون عجز يتضخّم عامًا بعد آخر. هذه العناصر، كما يذهب التقرير، تجعل فرص أي حكومة جديدة في "كسر الحلقة" محدودة جدًّا، ما دامت خرجت من رحم الأحزاب نفسها التي صنعت هذا الواقع وتعتاش عليه.
يرى المعهد أنّ الفساد في العراق لم يعد حالة عابرة او انحرافًا فرديًّا، بل "نمطًا" راسخًا يسيّر عمل البيروقراطية الحكومية من أعلى الهرم إلى أسفله. فالمواطن الذي يحمل طلبًا او معاملة رسمية، يجد نفسه غالبًا مضطرًّا للمرور عبر حزب او جهة سياسية تمثّله طائفيًّا او قوميًّا، مع إرفاق الطلب برسائل ووساطات و"هدايا" وعمولات تُدفع للمتنفّذين، كي تتحرك معاملته في ممرات الدولة. ويشير التقرير إلى أنّ الأحزاب المهيمنة تتعامل مع الوزارات والهيئات بوصفها "ممتلكات خاصة" وليست مؤسسات خدمة عامة، تُستخدم إمّا لاختلاس الأموال مباشرة، او لتوزيع الوظائف والعقود على شبكات المؤيّدين والتابعين.
وبحسب البروفيسور أليسا والتر، مؤلّفة كتاب "المدينة المتنازع عليها: تكريس المواطنة والنجاة في بغداد الحديثة"، التي يستند إليها التقرير، فإنّ نتائج الانتخابات وتشكيلة الحكومة المقبلة "لن تُحدِث تغييرًا حقيقيًّا في ملف الفساد"، لأنّ القوى التي تتقاسم السلطة اليوم هي نفسها التي صاغت قواعد اللعبة بعد 2003، وتملك مصلحة في استمرارها كما هي، مع بعض التعديلات الشكلية عند الحاجة. وتضيف أنّ بنية المحاصصة تجعل أي وزير او مسؤول أعلى "مقيّدًا" بشبكة حزبية أوسع منه، تحدّد خطوط ما يمكن وما لا يمكن المساس به داخل وزارته.
التقرير يعود كذلك إلى تجربة تظاهرات تشرين 2019 بوصفها اللحظة الأوضح التي رفع فيها الشارع شعار مكافحة الفساد وربطَه مباشرة بسوء الخدمات وانعدام العدالة في توزيع الفرص، لكنّ مآلات تلك الاحتجاجات، من وجهة نظر المعهد، أظهرت أنّ المنظومة السياسية استطاعت امتصاص الصدمة من دون إحداث مراجعة عميقة لأسلوب إدارتها للدولة، لتعود لاحقًا وتنتج حكومات جديدة وفق الآليات نفسها تقريبًا، مع تغيير في الوجوه لا في قواعد اللعبة.
في المقابل، يلفت التقرير إلى أنّ المجتمع العراقي "أصبح معتادًا" على هذا النمط من الأداء؛ فالكثير من البغداديين، كما ينقل، يربطون حضور المسؤولين والنشاطات الخدمية المحدودة بمواسم الانتخابات، حيث تُنفّذ أعمال ترميم موضعية او إصلاحات جزئية في الشوارع والساحات العامة، قبل أن يختفي الحراك بعد انتهاء الاقتراع. ويقدّم التقرير مثالًا برئيس الوزراء منتهي الولاية محمد شياع السوداني، الذي حظي بدعم شعبي ملحوظ مقابل "حزمة إصلاحات بسيطة" في بغداد، تمثّلت في تحسينات موضعية للبنية التحتية، معتبرًا أنّ هذا الدعم يعكس انخفاض سقف توقّعات المواطنين من دولتهم إلى مستوى يعتبر فيه الإصلاح الجزئي إنجازًا استثنائيًّا.
على مستوى البنية المالية، يتوقّف التقرير عند موجة التوظيف الواسعة في القطاع الحكومي خلال السنوات الأخيرة، والتي يُقدَّر أنّها أضافت قرابة 700 الف موظّف جديد إلى الجهاز الحكومي في فترة تولّي السوداني. هذه الزيادة رفعت إجمالي العاملين في القطاع العام إلى ما يناهز 4 ملايين موظّف، فضلًا عن مئات الآلاف العاملين في الشركات العامة المموّلة من الموازنة. ويرى المعهد أنّ هذا التوسّع، الذي استُخدم أداة لامتصاص الغضب الشعبي وتخفيف البطالة، تحوّل اليوم إلى عبء مالي ثقيل على أي حكومة مقبلة، لأنّ التراجع عنه عبر تقليص أعداد الموظفين يعني صدامًا مباشرًا مع قاعدة اجتماعية واسعة تعتمد بالكامل على رواتب الدولة.
وتشير القراءة الاقتصادية المرافقة للتقرير إلى أنّ سياسة "دولة الوظيفة" جعلت باب الرواتب والأجور واحدًا من أكثر أبواب الإنفاق تضخّمًا، ليقترب في بعض التقديرات من نحو 40 بالمئة من إجمالي الإنفاق الحكومي، في حين تبقى موازنات الاستثمار والخدمات والبنى التحتية محدودة قياسًا بحجم الاحتياجات المتراكمة في العاصمة والمحافظات. ويخلص التقرير إلى أنّ الدولة، بهذه التركيبة، باتت تعمل بمنطق "دفع الرواتب أولًا، ثم التفكير بكل شيء آخر لاحقًا"، مع ما يعنيه ذلك من اختناق مالي متكرّر عند أي هزّة في أسعار النفط.
في الخلفية، يقف ملف النفط كعامل حاسم في المعادلة. فالتقرير يشير إلى أنّ "سعر التعادل" الذي تحتاجه الموازنة العراقية لتغطية التزاماتها من دون اللجوء إلى الاقتراض يقترب اليوم من 90 دولارًا للبرميل، بسبب تضخّم كتلة الرواتب والدعم وتزايد الإنفاق الجاري، إلى جانب محدودية الإيرادات غير النفطية. ومع الاتجاه العالمي لتقلّب الأسعار واحتمالات الهبوط، يحذّر التقرير من أنّ أي فترة مطوّلة من انخفاض الأسعار ستدفع الموازنة مباشرة نحو عجز أعمق، في ظل غياب إصلاحات جذرية تخفّف الاعتماد على النفط كمصدر شبه وحيد لتمويل الدولة.
ورغم هذه الصورة القاتمة، ينقل معهد "واشنطن ريبورت" عن باحثين في مبادرات أكاديمية معنيّة بالشرق الأوسط أنّ العراق ما يزال يحتفظ بميزة مهمّة في الإقليم، تتمثّل في استمرار التداول السلمي للسلطة المبني جزئيًّا على نتائج الانتخابات، على عكس كثير من الدول العربية التي لا تزال أسيرة أنماط الحكم المغلقة. لكنّ هؤلاء يحذّرون في الوقت ذاته من أنّ هذه الميزة قد تفقد قيمتها تدريجيًّا إذا ظلّت الانتخابات تعيد إنتاج المنظومة نفسها من دون تغيير في قواعد التمويل السياسي، والرقابة على المال العام، وآليات اختيار الحكومات.
ويخلص التقرير إلى أنّ الحكومة المقبلة ستواجه ثلاثية ضاغطة: فساد متجذّر يوفر للأحزاب موارد ضخمة ويصعّب المساس بشبكات المحاصصة، قطاع عام متخم يلتهم الجزء الأكبر من الموازنة ويقيّد أي محاولة لإعادة الهيكلة، واعتماد شبه كامل على أسعار النفط في سوق عالمية لا يمكن التنبؤ بها. وبين هذه الأضلاع الثلاثة، ستكون قدرة الحكومة الجديدة على التحرّك مرتبطة بمدى استعداد القوى السياسية للموافقة على قرارات مؤلمة شعبيًّا، مثل ضبط التعيينات وكبح الهدر، مقابل فتح مسار مختلف لبناء دولة خدمات ومؤسسات، لا دولة رواتب فقط.
ويبقى السؤال، الذي يتركه التقرير مفتوحًا، هو ما إذا كانت القوى التي استفادت لسنوات من هذا النموذج المالي – السياسي قادرة فعلًا على تفكيكه، ام أنّ الحكومات المقبلة ستكتفي بإدارة الأزمة وتأجيل الانفجار، بانتظار دورة نفطية جديدة، أو احتجاجات جديدة، تعيد طرح الأسئلة نفسها من نقطة الصفر.
المصدر: بغداد اليوم+ واشنطن ريبورت
إقرأ المزيد


