ترامب يقلب معادلة الشرق الأوسط.. العراق من ساحة حرب إلى بوابة إمبراطورية العقود الأمريكية
هذا اليوم -

بغداد اليوم – بغداد

لم تعد صورة السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط متوقفة عند مشاهد الدبابات والقواعد العسكرية والضربات الجوية، بل باتت تُرسم أكثر فأكثر في قاعات المؤتمرات الاستثمارية، وصفقات السلاح العملاقة، ومذكرات التفاهم الاقتصادية العابرة للحدود. هذا التحول، الذي تعمّق خلال ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الحالية، لا يظهر فقط في لغة البيت الأبيض وتقارير مراكز الأبحاث، بل ينعكس أيضا في الطريقة التي يتحدث بها الساسة الأمريكيون عن دور بلادهم في المنطقة، وفي قلبها العراق.

في تصريح خاص لوكالة "بغداد اليوم"، يضع نعمان أبو عيسى، عضو الحزب الديمقراطي الأمريكي، هذا التحول في صيغة مباشرة، قائلا إنّ سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط شهدت "تحولا واضحا خلال ولاية الرئيس ترامب"، مشيرا إلى أنّ التركيز بات الآن على المصالح الاقتصادية والتجارية أكثر من التدخل الدبلوماسي أو العسكري المباشر.

يضيف أبو عيسى موضحا أنّ "المهمة الرئيسية للرئيس الأمريكي والسفارات والدبلوماسيين في العالم، وخاصة في الشرق الأوسط، تتمثل في فتح آفاق التعاون الاقتصادي وتأمين عقود للشركات الأمريكية مع الدول، بما فيها العراق"، مؤكدا أنّ هذا التوجه يعكس "تحولا استراتيجيا في طريقة إدارة واشنطن لشؤون المنطقة". وفي قلب هذا التوصيف، يبرز العراق بوضوح، إذ يشير أبو عيسى إلى أنّ العراق "يحتل موقعا بارزا في هذه الاستراتيجية، كدولة ذات أهمية استراتيجية للولايات المتحدة، ويضم أكبر سفارة أمريكية في العالم، ما يعكس الدور المحوري للعراق في السياسات الاقتصادية والتجارية لواشنطن".

ويتابع مؤكدا أنّ "السياسة الأمريكية لم تعد تركز على النفوذ العسكري أو التدخل المباشر، بل على تعزيز العلاقات الاقتصادية وتوسيع فرص الاستثمار، ما يجعل من العراق شريكا مهما ضمن هذه الرؤية". هذه العبارات لا ترسم مجرد انطباع شخصي، بل تتقاطع مع مسار كامل يمكن تتبعه في خطوات الإدارة الحالية، من صفقات الخليج إلى طريقة التعامل مع إيران وسوريا، مرورا بملف العراق نفسه.

من "أمريكا أولا" إلى "العقود أولا"

منذ طرح شعار "أمريكا أولا" في خطاب تنصيب ترامب، بدا واضحا أنّ مقاربة السياسة الخارجية ستخضع لإعادة هيكلة قائمة على تقليص الكلفة المباشرة للحروب، وتعظيم مكاسب الصفقات التجارية والاستثمارية، مع الإبقاء على أدوات الضغط التقليدية كالعقوبات والوجود العسكري المحدود عند الحاجة. هذا المنطق ظهر مبكّرا في التركيز على خفض الانخراط المباشر في الحروب الطويلة، بالتوازي مع تشديد العقوبات على الخصوم، كما حدث في سياسة "الضغط الأقصى" على إيران، التي أعادت استخدام الأدوات الاقتصادية والمالية وسيلة رئيسية لإدارة الصراع، بدلا من التورط في مواجهات عسكرية واسعة.

لكن الوجه الأكثر وضوحا لهذا التحول تجلّى في زيارات ترامب المتكررة إلى الخليج، حيث تحوّلت القمم الثنائية ومتعددة الأطراف إلى منصات لإعلان حزم استثمارية وصفقات سلاح غير مسبوقة من حيث الحجم والتركيب. في هذه اللقاءات، كانت الأرقام الضخمة للعقود تُقدَّم بوصفها "إنجازا للوظائف في الداخل الأمريكي"، وفي الوقت نفسه مدخلا لإعادة تشكيل شبكة التحالفات السياسية والأمنية في المنطقة عبر بوابة المال والاستثمار، لا عبر بوابة الجيوش وحدها.

في هذه الصورة، لا يعود السلاح مجرد أداة أمنية، بل جزءا من "صفقة شاملة" تتداخل فيها شركات الطاقة والتكنولوجيا والبنى التحتية مع الصناعات الدفاعية. كثير من التقارير والدراسات وصفت هذه المقاربة بأنها انتقال من دبلوماسية "إدارة الأزمات" إلى دبلوماسية "تعظيم العوائد"، حيث يُستخدم النفوذ السياسي والعسكري لفتح أسواق أمام الشركات الأمريكية، فيما تُقدَّم الحماية الأمنية بوصفها جزءا من حزمة تجارية متكاملة.

العراق في قلب التحول: من ساحة حرب إلى منصة عقود

في هذا السياق الجديد، يبدو العراق، من زاوية واشنطن، أكثر من مجرد ساحة اختبار لسياسات الأمن ومكافحة الإرهاب. فإلى جانب موقعه الجيوسياسي بين إيران والخليج وتركيا وسوريا، يجلس العراق على كتلة هائلة من الموارد النفطية والغازية، ويحتاج إلى شبكات طاقة وبنى تحتية وإعمار تمتد لعقود. هذا ما يجعل منه، وفق تعبير أبو عيسى، "شريكا مهما ضمن هذه الرؤية"؛ شريكا لا يعني فقط ملف تدريب القوات أو تبادل المعلومات، بل عقودا في مجالات الطاقة والكهرباء والاتصالات والتكنولوجيا والخدمات اللوجستية.

وجود أكبر سفارة أمريكية في العالم في بغداد، من حيث المساحة والتركيب الأمني والدبلوماسي، لم يعد يُقرأ فقط كرمز لمرحلة الاحتلال وما بعدها، بل كمنصة متكاملة لإدارة هذا التحول الاقتصادي – السياسي. فالمجمع الدبلوماسي الضخم الذي أُنشئ على مساحة واسعة، ويُعد الأكبر بين البعثات الأمريكية في الخارج، صار أيضا واجهة لتحركات تجارية واستثمارية، ومركز ثقل لشبكة من الوكالات والهيئات الأمريكية التي تتعامل مع ملفات الطاقة والمال والشركات والمؤسسات الدولية المرتبطة بالعراق.

دراسات عديدة تناولت خلال الأعوام الأخيرة "الاستراتيجية الأمريكية في العراق" تشير إلى أنّ الإدارة تميل إلى استخدام أدوات مالية واقتصادية في إدارة النفوذ أكثر من الميل إلى توسعة الحضور العسكري المباشر. فبدلا من إرسال مزيد من القوات، تُفضّل واشنطن التعويل على أدوات مثل العقوبات الذكية، ومراقبة تدفقات الدولار، وربط حجم التعاون المالي والاقتصادي بمدى ابتعاد بغداد عن المحور الإيراني، إلى جانب محاولة دفع الشركات الأمريكية للدخول في مشاريع البنى التحتية والطاقة داخل العراق.

في هذا الإطار، يصبح تصريح أبو عيسى عن "فتح آفاق التعاون الاقتصادي وتأمين عقود للشركات الأمريكية" ليس وصفا جانبيا، بل تعبيرا عن جوهر وظيفة السفارات والمبعوثين في المنطقة، كما تراها الإدارة الحالية: أولوية العقود، ثم يأتي كل شيء آخر.

الخليج كنموذج: صفقات السلاح والاستثمار ترسم عقيدة جديدة

في جولة الخليج التي قام بها ترامب، برزت ملامح هذا التحول بأوضح صورة. فإلى جانب الملفات السياسية التقليدية، من العلاقات مع إيران إلى أمن الممرات البحرية، كانت العناوين الأبرز تدور حول حزم استثمارية ضخمة، وصفقات سلاح، وبرامج تعاون اقتصادي طويل الأمد. في تلك المشاهد، لم تعد المؤتمرات الصحفية تتحدث فقط عن "تحالفات ضد الإرهاب"، بل عن "فرص استثمارية" و"مشاريع رؤية" و"مناطق اقتصادية" و"ممرات تجارية"، كأنّ المنطقة تُعاد صياغتها على شكل لوحة استثمارية بقدر ما هي خارطة أمنية.

هذا النمط لم يأت من فراغ. فمنذ توقيع "اتفاقات أبراهام" عام 2020، التي فتحت الباب أمام تطبيع العلاقات بين إسرائيل وعدة دول عربية برعاية أمريكية، بدا أنّ المقاربة تقوم على استثمار التهدئة في خلق مسارات تعاون اقتصادي وتجاري وسياحي وتكنولوجي، بما يجعل التحالفات السياسية والعسكرية الجديدة محمولة على شبكة مصالح اقتصادية مكثفة وطويلة الأمد.

الجديد في المرحلة الراهنة هو أنّ هذا المنطق لم يعد محصورا في ملف التطبيع العربي – الإسرائيلي، بل امتد إلى شكل العلاقة مع دول مثل السعودية وقطر والإمارات والعراق وسوريا ما بعد الحرب، حيث يجري ربط تخفيف العقوبات أو تقديم الدعم الأمني بإمكانية فتح أبواب واسعة للشركات الأمريكية في مجالات الطاقة والإعمار والتكنولوجيا والنقل والخدمات اللوجستية.

منطق "الربح والخسارة": كيف تنظر واشنطن إلى العراق؟

بالنظر إلى العراق من زاوية هذا التحول، يمكن القول إنّ موقعه في الحسابات الأمريكية تحكمه ثلاثة مستويات متداخلة:

المستوى الأول، هو مستوى الأمن الاستراتيجي، المرتبط بملف إيران، وحدود سوريا، وتوازن القوى مع تركيا والخليج. هنا يبقى العراق ساحة حيوية لأي سياسة ضغط على طهران، سواء عبر متابعة نشاط الفصائل المسلحة أو عبر مراقبة حركة الأموال والنفط والغاز.

المستوى الثاني، هو مستوى الفرص الاقتصادية، حيث يبدو العراق "سوقا واعدة" للشركات الأمريكية في مجالات الطاقة التقليدية والغاز المصاحب، وربط الشبكات الكهربائية، وبناء الموانئ والطرق والسكك الحديدية، إضافة إلى القطاعين المصرفي والرقمي. في هذا المستوى، يصبح دور السفارة والبعثات الاقتصادية الأمريكية هو تحويل النفوذ السياسي والأمني إلى عقود ملموسة، كما يلمّح أبو عيسى في حديثه عن "تأمين عقود للشركات الأمريكية مع الدول، بما فيها العراق".

المستوى الثالث، هو مستوى التوازن مع الخصوم والمنافسين، وعلى رأسهم الصين وروسيا وإيران، الذين يتحركون بدورهم لملء الفراغات الاستثمارية والطاقوية. كل صفقة كبرى في العراق – سواء في مجال النفط أو الغاز أو البنى التحتية – تتحول في هذا السياق إلى جزء من لعبة أوسع بين واشنطن وبكين وموسكو وطهران، ما يجعل من الاقتصاد امتدادا لصراع النفوذ لا بديلا عنه.

تحت هذا السقف، يمكن قراءة كثير من الملفات التي شغلت بغداد في السنوات الأخيرة، من مفاوضات شركات النفط الكبرى، إلى مشاريع الربط الكهربائي الإقليمي، وصولا إلى المحاولات المتكررة لربط الإصلاحات المصرفية والمالية العراقية بشروط الخزانة الأمريكية والبنك الفيدرالي.

السفارات كـ"مراكز أعمال": حين تتحول الدبلوماسية إلى ذراع تجارية

ما يقوله نعمان أبو عيسى عن مهمة "الرئيس والسفارات والدبلوماسيين" لا يبتعد كثيرا عن الواقع العملي لعمل البعثات الأمريكية في المنطقة خلال الأعوام الأخيرة. فمنذ إدارة أوباما، مرورا بترامب، وصولا إلى المرحلة الحالية، تعززت شبكة مكاتب الملحقين التجاريين وفرق ترويج الاستثمار داخل السفارات، وأصبح جزء كبير من نشاطها موجها نحو فتح الأبواب أمام الشركات الأمريكية والمستثمرين، وتسهيل الوصول إلى عقود محلية وإقليمية، وتنسيق مشاركة هذه الشركات في مشاريع البنى التحتية الكبرى وخطط "الرؤى" الوطنية في الخليج، ومشاريع الإعمار في دول ما بعد الحرب.

في بغداد، تتضاعف أهمية هذا الدور بفعل حجم السفارة وتعقيد المشهد العراقي. فوجود هذا الكم من الوكالات والبرامج والمكاتب داخل المجمع الدبلوماسي، من الدفاع والخارجية إلى الخزانة والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وغيرها، يعني أنّ كل ملف اقتصادي كبير – في الطاقة أو البنية التحتية أو المصارف – يمر بشكل أو بآخر عبر قنوات مرتبطة بالسفارة، أو على الأقل يخضع لتقييمها السياسي والأمني والمالي.

هذا لا يعني بالضرورة أنّ الدبلوماسية تحوّلت بالكامل إلى "ذراع تجارية"، لكنها بالتأكيد باتت تُقاس، في جزء معتبر منها، بكمية العقود التي تُفتح للشركات الأمريكية، وحجم النفوذ الاقتصادي الذي يمكن تثبيته على المدى الطويل.

بين الاقتصاد والسلاح: هل انتهى زمن التدخل العسكري؟

رغم هذا التركيز الواضح على الاقتصاد والعقود، لا يمكن القول إنّ الولايات المتحدة تخلّت عن أدوات القوة الصلبة في المنطقة. صفقات السلاح الضخمة مع دول الخليج تؤكد أنّ الاقتصاد والسلاح يسيران جنبا إلى جنب، وأنّ الأمن لا يزال يُستخدم بوصفه "حاضنة" لهذه العقود، لا نقيضا لها.

كما أنّ سياسة الضغط على إيران تعتمد على توليفة تجمع بين العقوبات الاقتصادية، والتهديد العسكري، واستثمار شبكة القواعد الأمريكية في العراق والخليج والبحر الأحمر وشرق المتوسط، ضمن خطاب يوازن بين لغة "لا نريد حربا جديدة" و"لن نسمح بتغيير قواعد اللعبة النووية والإقليمية".

في هذا الإطار، يبدو التحول من "الحرب إلى الاقتصاد" أقرب إلى إعادة ترتيب أولويات، لا إلى قطيعة كاملة مع الماضي. فالإدارة الحالية لا تريد حروبا برية طويلة ومكلفة كالتي عرفها العراق وأفغانستان، لكنها لا تتردد في استخدام العقوبات، والضغط المالي، والتهديد بالقوة، لضمان بيئة أكثر ملاءمة لتدفق الصفقات والعقود والشركات الأمريكية.

ماذا يعني ذلك للعراق؟

بالنسبة للعراق، يطرح هذا التحول مجموعة من الأسئلة المركّبة أكثر مما يقدم إجابات جاهزة. فأن تصبح "المهمة الرئيسية" للدبلوماسية الأمريكية، كما يصفها أبو عيسى، هي تأمين العقود للشركات الأمريكية في بلد مثل العراق، يعني أنّ بغداد أمام فرصة ومخاطرة في آن واحد.

الفرصة تتمثل في إمكان استقطاب استثمارات، ونقل تكنولوجيا، والدخول في شراكات يمكن أن تساعد في تحديث البنى التحتية المتآكلة وقطاع الطاقة المرهق، وفتح أسواق وفرص عمل جديدة.

لكن المخاطرة تكمن في أن تتحول هذه العقود نفسها إلى أدوات نفوذ جديدة، تُستخدم لإعادة تشكيل التوازنات الاقتصادية والسياسية داخل البلاد، وربط قرارات بغداد الاستراتيجية بخيوط مصالح مالية واستثمارية طويلة الأمد، في وقت لا تزال فيه الدولة تكافح لترسيخ سيادتها على قرارها الأمني والعسكري والاقتصادي.

بين هذين الحدّين، يبدو أنّ السؤال الأهم الذي يواجه صانع القرار العراقي اليوم ليس فقط: كيف نتعامل مع إدارة أمريكية تعيد تعريف دورها في المنطقة؟ بل أيضا: كيف يمكن تحويل هذا التحول من "الحرب إلى الاقتصاد" إلى مصلحة وطنية، لا إلى صيغة جديدة من الارتهان؟

فإذا كانت السفارات، كما يقول نعمان أبو عيسى، جاءت "لتفتح آفاق التعاون الاقتصادي وتأمين عقود للشركات الأمريكية"، فإنّ العراق مدعو لأن يطرح السؤال المقابل: أي عقود يريد؟ وعلى أي قواعد يريد أن تُبنى هذه الشراكات، حتى لا يتحول التحول الاستراتيجي في واشنطن إلى مجرد فصل جديد من قصة طويلة، تغيّر فيها شكل النفوذ الأمريكي وأدواته، بينما بقي جوهر الخلل في علاقة العراق بالعالم على حاله.

تقرير: محرر قسم الشؤون السياسية في بغداد اليوم



إقرأ المزيد