غضب إيراني متوتر ضد الخليج
هذا اليوم -

القيادة الإيرانية تشعر بالعزلة المتزايدة مع تساقط الأذرع التي نشرتها في الإقليم (أ ف ب)

قبل "طوفان غزة"، وبينما كانت في ذروة صعودها على رأس "محور الممانعة والمقاومة" و"ساحاته الموحدة"، لم تكُن إيران لتطيق سماع البيانات التقليدية الصادرة عن الاجتماعات العربية والخليجية والدولية التي تدعو إلى حل نزاعها مع دولة الإمارات العربية حول ملكية الجزر الإماراتية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى. لكن ردودها في الموضوع عينه ازدادت عدوانية بعد تطورات العامين الأخيرين، فانتقلت من تسجيل احتجاجاتها إلى الهجوم السياسي المباشر على المجموعة الخليجية، ودولة الإمارات خصوصاً، مما يعكس مستوى التوتر الداخلي بعد الضربات التي تلقاها المشروع الإيراني، رأساً وأذرعَ على امتداد الإقليم.

وكان كل موقف عربي حول الجزر الثلاث يستدعي تصريحاً مضاداً من وزارة الخارجية الإيرانية، فيه من التعالي والاستكبار، ما يعكس غلو مشروع الملالي التوسعي وتوغله، فما عاد يكتفي باحتلال الجزر، بل كان في حينه يتفاخر بالسيطرة على أربع عواصم عربية بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء ويدفع أعمال الشغب في البحرين، ويناهض، ليس من يتحدث عن الجزر الإماراتية فقط، وإنما من يقول بتسمية "الخليج العربي". فهذا الخليج الذي تحوطه الشعوب العربية من عربستان وعاصمتها المحمرة التي ضمت إلى إيران عام 1925 وصولاً إلى ساحله الجنوبي في عمان، تصر إيران على تسميته "الخليج الفارسي"، وتهاجم من لا يستعمل هذه التسمية، وتحاول أن تفرض هيمنتها عليه بالقوة والمناورات العسكرية، وبادعاء ملكية الجزر وحقل نفط آرش الذي تتشارك في ملكيته السعودية والكويت ولا تنكران حصة إيران فيه بمقتضى الحدود البحرية الدولية والاتفاقات التي ترعاها.

وقابلت إيران الدعوات العربية والخليجية والدولية إلى الحوار أو اللجوء إلى المحكمة الدولية لتحديد مصير الجزر الثلاث بالرفض الدائم، حتى إنها استشاطت غضباً عندما وقعت كل من الصين وروسيا بيانات بهذا الخصوص مع دول الخليج العربي. ووصل الأمر بالقيادة الإيرانية حينها إلى حد استدعاء سفيري البلدين "الحليفين" عامي 2023 و2024 على التوالي لـ"توبيخهما" على "فعلة" حكومتيهما، من دون أن يغير هذا الاستدعاء شيئاً في موقف البلدين.

ورداً على بيان قمة "مجلس التعاون الخليجي" الـ46 التي عقدت في البحرين قبل أيام استنفر أركان النظام الإيراني، خصوصاً المقربين من المرشد علي خامنئي وشنوا حملة من التهديدات المباشرة ضد المجموعة الخليجية عموماً ودولة الإمارات خصوصاً ووصل بهم الأمر إلى حد استعادة خطاب قديم عن ضم البحرين. ولم يقتصر الرد الإيراني على بيان من الخارجية كما جرت العادة، فحضر مستشارو خامنئي من السياسيين والعسكريين للإدلاء بدلوهم، إذ بدا أن بيان القمة كان مزعجاً في تفاصيله ووضوحه الشديد ربطاً بالممارسات الإيرانية في منطقة الخليج عموماً وفي شأن الجزر خصوصاً.

وورد في نص البيان الخليجي التالي "دان المجلس الأعلى المناورات العسكرية الإيرانية التي تشمل جزر دولة الإمارات العربية المتحدة الثلاث المحتلة، طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى، والمياه الإقليمية والإقليم الجوي والجرف القاري والمنطقة الاقتصادية الخالصة للجزر الثلاث باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من أراضي دولة الإمارات العربية المتحدة".

و"دان المجلس الأعلى واستنكر الزيارات والتجاوزات المتكررة التي يقوم بها كبار المسؤولين الإيرانيين إلى الجزر الإماراتية الثلاث المحتلة التي كان آخرها بتاريخ الثالث من نوفمبر (تشرين الثاني) 2025، حيث قام قائد القوات البحرية في الحرس الثوري الإيراني الأدميرال علي رضا تنكسيري بجولة تفقدية بجزيرة أبو موسى الإماراتية المحتلة من قبل إيران، وكذلك جزيرة سيري. والزيارة التفقدية التي قام بها القائد العام للحرس الثوري الإيراني اللواء محمد باكبور، بتاريخ الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي للوحدات القتالية في "جزر الخليج" حيث قال ’توفقنا اليوم بأن نكون في خدمة إخوتنا الأعزاء في القوات البحرية للحرس الثوري وزيارة جزر نازعات، أبو موسى، طنب الكبرى، وطنب الصغرى‘"، وذكّر البيان بـ"الزيارة التي قام بها محافظ هرمزغان محمد آشوري ونائب وزير الطرق وبناء المدن الرئيس التنفيذي لمنظمة الموانئ والملاحة البحرية الإيرانية سعيد رسولي بتاريخ الـ21 من سبتمبر (أيلول) 2025 إلى ميناء جزيرة أبو موسى المحتلة"... ودان واستنكر كافة "التصريحات العدائية التصعيدية الموجهة ضد دولة الإمارات العربية المتحدة في سيادتها على جزرها الثلاث المحتلة، واستهجانه كل الخطوات الإيرانية العدائية عادّاً ذلك انتهاكاً لسيادة دولة الإمارات العربية المتحدة على أراضيها، ولا يتماشى مع الجهود والمحاولات التي تبذل لإيجاد تسوية سلمية"، ودعا إيران إلى "الكف عن القيام بمثل هذه الخطوات الاستفزازية التصعيدية، وتبني مواقف بناءة تعزز الثقة للتوصل إلى حل عادل لقضية الجزر الإماراتية الثلاث".

ولم يحمل البيان الخليجي جديداً غير الإشارة إلى مستجدات الممارسات التي تقوم بها طهران، لكن الرد الإيراني كان في تنفيذ مزيد من المناورات في الخليج، استعملت خلالها صواريخ تغطيه من شماله إلى جنوبه، واكبتها سلسلة من المواقف التصعيدية اللافتة.

المتحدث باسم وزارة الخارجية إسماعيل بقائي كان الأقل توتراً، فأعرب عن أسفه "لإصرار مجلس تعاون الخليج على تكرار ادعاء الإمارات العربية المتحدة الباطل والواهي في شأن الجزر الإيرانية أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى"، ودان "الادعاءات الواردة في البيان الختامي للقمة الـ46 للمجلس حول هذه الجزر الإيرانية"، وأكد أن" الجزر جزء لا يتجزأ من الأراضي الإيرانية، وأن أي ادعاء إقليمي ضدها باطل من الأساس، ويتعارض بصورة واضحة مع مبدأ احترام وحدة أراضي الدول وحسن الجوار".

وشدد على "سياسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية القائمة على حسن الجوار والتعاون مع الدول المجاورة لتعزيز العلاقات والحفاظ على الأمن والاستقرار الإقليميين"، داعياً دولة الإمارات العربية المتحدة و"مجلس تعاون الخليج" إلى "الامتناع عن اتخاذ مواقف استفزازية تتعارض مع حسن الجوار تجاه إيران".

وفي المناسبة تحدث بقائي عن "حقوق الجمهورية الإيرانية في حقل آرش النفطي"، وعدّ "الادعاءات الأحادية الجانب في شأن هذا الحقل باطلة"، موضحاً أن "إصدار التصريحات المتكررة وتقديم الادعاءات الأحادية الجانب لا ينشئ أية حقوق للحكومة الكويتية من الناحية القانونية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن ما لم يقُله بقائي خلال خطابه الدبلوماسي، تولى مستشار خامنئي علي أكبر ولايتي إعلانه في هجوم هو الأقسى من نوعه على دولة الإمارات.

وقال ولايتي إن الوقت قد حان لتوضيح "حقائق مغيبة" في السياسة الخارجية للإمارات، وإن أبو ظبي "أخفت لأعوام طويلة ممارساتها المؤسفة عن الرأي العام"، وإن دورها التخريبي في المنطقة "لم يعُد قابلاً للتجاهل".

وتابع "ماذا كانت تفعل الإمارات في اليمن؟ ولماذا احتلت جزيرة سقطرى؟ وكيف قامت بنقل مجموعات من السودانيين الأبرياء وإرسالهم كمقاتلين مأجورين إلى ساحات الحرب؟"، مضيفاً أن "دماء عشرات آلاف اليمنيين سالت بسبب السياسات التوسعية التي انتهت بهزيمة واضحة بعد صمود أنصار الله".

ومضي ولايتي محذراً "مجلس التعاون" من أن تبني هذه الادعاءات "لن يسهم في أمن المنطقة".

وختم بالقول إن "الجزر الثلاث وحقل آرش كانت وستبقى جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الإيرانية، وهذه الحقيقة لن تغيرها أية بيانات سياسية".

والعسكريون الإيرانيون أدلوا بدلوهم أيضاً، فقال قائد بحرية الحرس الثوري الأدميرال علي رضا تنكسيري خلال المناورات التي أطلق عليها اسم "مناورة الاقتدار البحرية للحرس الثوري الإيراني"، "لدينا سيطرة استخباراتية دائمة في الخليج". وزاد عليه علي شمخاني، ممثل خامنئي، في "مجلس الدفاع الوطني"، أن على الدول الخليجية عدم "اللعب بالخطوط الحمراء"، قبل أن يتطوع مدير صحيفة "كيهان" ومستشار خامنئي حسين شريعتمداري، فيكتب في مقالة السبت الماضي أن ضم البحرين إلى إيران هو "حق لا يمكن تجاهله". ومقالة شريعتمداري حملت عنواناً استفزازياً "خطأ كبير للقراصنة" وفيها هجوم على الإمارات التي زعم أن اسمها كان "ساحل القراصنة".

ما الذي يدفع إيران إلى هذا المستوى من الهجوم المعلن ضد بيان قمة البحرين، وهي التي استقبلت قبل القمة بأيام وكيل وزارة الخارجية السعودية سعود الساطي وأعلنت أنها أجرت معه محادثات جيدة تناولت الأوضاع الإقليمية، خصوصاً في غزة ولبنان وسوريا؟

والصحافة الإيرانية احتفت في المناسبة بتطور العلاقات بين طهران والرياض، وقالت صحيفة "أفكار" الإصلاحية إن "النهج الأخوي بين إيران والسعودية، على رغم التحديات، حقق توازناً يخدم الاستقرار والتنمية المشتركة مدفوعاً بعوامل جيوسياسية خارجية".

ووصفت صحيفة "إيران" زيارة المسؤول السعودي بأنها "جزء من مبادرة دبلوماسية إقليمية لاحتواء التوتر الأميركي- الإيراني، على رغم طبيعة المواجهة الهيكلية التي تعقد الوساطة".

وتمسكت إيران دائماً بحديث دافئ عن علاقتها مع السعودية منذ اتفاق بكين، وهي تتحدث دائماً عن تطور ثابت في هذه العلاقة، فيما تحدثت مصادر عدة عن سعي سعودي إلى تنشيط الحوار الأميركي- الإيراني بطلب من طهران نفسها. وفي هذا الإطار كان لافتاً ما تتضمنه البيانات الخليجية، بما فيها بيان قمة البحرين من إدانة للهجمات الإسرائيلية على إيران وتأكيد على ضرورة الحوار الأميركي مع طهران، وثناء على دور الوسطاء وبينهم الوسيط العماني.

السؤال عن أسباب هذا المستوى من الغضب الإيراني الموجه ضد البيان الخليجي، جوابه ربما يكمن في إحساس القيادة الإيرانية بالعزلة المتزايدة مع تساقط الأذرع التي نشرتها في الإقليم، بدءاً من غزة ولبنان وصولاً إلى سوريا، والحصار الذي يزداد إحكاماً على الحوثيين في اليمن، ثم أخيراً، وتزامناً مع بيان البحرين، الكشف عن وثيقة عراقية (جرى تعديلها) تصنف "حزب الله" و"الحوثيين" كتنظيمات إرهابية.

وهذه الوقائع، مضافة إلى عدم إحراز تقدم في الحوار الأميركي- الإيراني، والحديث عن حرب حتمية تشنها إسرائيل لإسقاط نظام الملالي، تدفع القيادة في طهران إلى مزيد من العدائية والتمسك بأوراق باقية أو يعاد إحياؤها.

وفي هذا السياق يندرج تمسكها بـ"حزب الله" وسلاحه في مواجهة قرارات الدولة اللبنانية وحرصها على دعم الحوثيين واستنكارها القرارات العراقية في شأن الميليشيات وتشجيعها أنصارها على الإمساك بالسلطة في بغداد.

وفي هذا المعنى، فإن الغضب الاستكباري الذي صبه نظام الملالي على بيان المجموعة الخليجية، يحمل إضافة إلى تعبيره عن جوهر الموقف الإيراني الأساسي الطامع في التوسع الإقليمي، نكهة تهديد تضاف إلى ما تعده طهران أوراق حماية وتفاوض في لحظة لا تزال تأمل في قدومها.

لكنها أوراق لا يبدو أنها ستعدل في مصائر الأمور ما لم تعدل طهران في سلوكها، مما يبدو مستبعداً في الوقت الحالي، إذ لا يزال حديث المعركة يحتل موقعاً متقدماً على ما قال المبعوث الأميركي توماس براك، "فالمواجهة بين إسرائيل وإيران لم تصل إلى فصلها الأخير... ورواية الصراع ومستقبله بينهما لا يزالان قيد التشكل".




إقرأ المزيد