هذا اليوم - 12/3/2025 1:35:01 AM - GMT (+3 )
شفق نيوز- كرمانشاه
مع أول هبّة باردة من خريف كرمانشاه، كانت أوراق البلوط الجافة تتساقط فوق تلال زاغروس، تصدر خشخشة خفيفة مع كل خطوة، والريح القادمة من الجبال تبدو كأنها تحمل حكايا قديمة من الشرق الكوردي.
في ظهيرة من تلك الظهيرات، فتحتُ باب بيت جدتي في سربل ذهاب، البيت الطيني الدافئ الذي يعرفه أهل الحي باسم صاحبته "داخاتون". ما إن دخلت إلى الفناء شبه المظلل حتى سبقتني الرائحة قبل السلام. رائحة دافئة مألوفة أعرفها منذ طفولتي، جعلتني أتباطأ في المشي وكأن أنفي يمشي قبلي. التفتت داخاتون نحوي، مسحت بيديها على ثوبها الكوردي المزركش ثم ابتسمت وقالت وهي تشير إلى البخار المتصاعد من القدر «انظري يا ابنتي، الجو خريفي، والبرد لا يبرد الجسد فقط، بل يهز القلب أيضا. كلي قدرا من الترخينة حتى يدفأ جسدك ويدفأ قلبك».
في وسط الفناء، كان قدر نحاسي عتيق موضوعا على حامل حديدي ثلاثي، يتلوّى منه خيط من البخار، كأنه يحاول الصعود إلى سماء كرمانشاه. اقتربت داخاتون من صينية مغطاة بقماش قطني، رفعت طرفه برفق، وناولَتني إحدى كرات الترخينة اليابسة، لونها مائل إلى الذهبي، محفور على سطحها أثر الشمس والصيف.
قالت وهي تقلب الكرة بين أصابعها الخبيرة: «نعد الترخينة في الصيف من اللبن والقمح والأعشاب الجبلية. نتركها مع الشمس أياما طويلة حتى تجف، وتبقى معنا لشهور. انظري كم أصبحت جميلة».
أسقطت الكرة في ماء القدر الذي بدأ يغلي ببطء وأضافت «حين تشرب الماء وتغلي، تطلق كل روحها في القدر».
في القدر كان العدس والحمص المسلوقان ينتظرانها بصبر، ليزداد قوام الحساء غنى وثقلا. رائحة النعناع الجبلي، مع ظل البصل المقلي على النار، راحت تتسلل إلى كل زاوية في البيت. أصبحت جدران الغرفة وكأنها مغطاة برطوبة الحساء، فيما بقي الخارج مشغولا برياح الخريف وصفيرها.
جلست داخاتون قرب النار، عدّلت من وضع "السيبايه" تحت القدر، ثم قالت بلهجتها الكوردية الدافئة «يا ابنتي، أهل كرمانشاه يطبخون هذا الحساء في الخريف، عندما تجف الحنجرة ويكون البرد لاذعا. هذا الحساء يدفئ الجسد والروح معا».
في الأسواق الكرمانشاهية، يمكن لعائلة مكوّنة من أربعة أشخاص أن تجهز قدرا من الترخينة بشرائها جاهزة مع العدس والحمص والبصل والنعناع والزيت، بكلفة تتراوح بين مئة وخمسين ومئتي ألف تومان. لكن داخاتون هزّت رأسها مبتسمة، وكأنها تسمع الأرقام ولا تعترف بها «يا ابنتي، السعر ليس مهما. هذا الحساء يدفئ روح الإنسان ويشبع قلبه، وهذا يكفي».
حين نضج الحساء، سكبت داخاتون البصل المقلي الذهبي على وجه القدر، ورشّت قليلا من النعناع المجفف فوقه. امتزجت رائحة اللبن الحامض مع قرمشة حبات القمح المحمص. تناولت أول ملعقة، فشعرت وكأن قطعة من الجبل قد ذابت في فمي، وكأن كل صيف مضى وكل خريف مرّ من هنا عاد في تلك اللقمة.
في الخارج، ظل الخريف يعصف بتلال كرمانشاه، يبعثر أوراق البلوط على المنحدرات. أما في الداخل، فكان بخار الترخينة يتماوج في الهواء، يرسم ضبابا صغيرا على زجاج النوافذ، ويحوّل بيت داخاتون إلى ملجأ من كل برد.
رفعت داخاتون ملعقتها، نظرت إليّ بعينين يختلط فيهما الحنان بحكمة السنين، وقالت «يا ابنتي، الترخينة لا تشبع البطن فقط، بل تدفئ القلب أيضا… لا تنسي هذا أبدا».
في تلك اللحظة، بدا أن خريف كرمانشاه كله قد استقر في قدر نحاسي واحد، وفي ابتسامة امرأة اسمها "داخاتون"، تحرس بطبق واحد ذاكرة بيت، ومدينة، وجبال كاملة.
نقلا عن وكالة فارس الإيرانية ترجمة وإعداد شفق نيوز
إقرأ المزيد


