3 ضوابط تمنع "حزب الله" من الرد على اغتيال الطبطبائي
هذا اليوم -

تأتي عملية اغتيال هيثم الطبطبائي كاستفزاز محسوب ومقصود هدفه دفع الحزب للرد (أ ف ب)

خلافاً لكل التقديرات التي رجحت أن تبقى إسرائيل في مربع الانتظار، وأن تُرحل أي تصعيد كبير إلى مطلع عام 2026 أو في الأقل إلى ما بعد زيارة البابا لاون الـ14 إلى لبنان، جاءت ضربة الضاحية الجنوبية لبيروت، لتقلب المشهد رأساً على عقب. قررت إسرائيل أن تتجاوز منطق "التهدئة المحسوبة" وتنفذ اغتيالاً نوعياً في لحظة سياسية وأمنية حساسة، كأنها تعلن أن روزنامتها الخاصة منفصلة تماماً عن روزنامة الوسطاء الدوليين والرسائل البابوية ومشاريع التهدئة الإقليمية. ولتقول وعبر هذه العملية، إنها لن تنتظر صدور البيانات الدبلوماسية ولا اكتمال الجولات التفاوضية، وإنها مستعدة لكسر التوقعات والقيام بالخطوة الأكثر خطورة في توقيت يراه الجميع، غير مناسب. هذا الخرق للتوقعات لا يشير فقط إلى إرادة التصعيد، بل إلى رغبة واعية بفرض إيقاع جديد على الجبهة الشمالية، وربما على جميع الأراضي اللبنانية، قبل أن تفرض عليها واشنطن أو الفاتيكان أو الوسطاء أي سقف أو ضوابط.

وهزت غارة إسرائيلية الضاحية الجنوبية، معقل "حزب الله"، مساء الأحد 23 نوفمبر (تشرين الثاني)، مستهدفةً الرجل الثاني عسكرياً في الحزب، هيثم علي الطبطبائي، وهو قائد الجبهة الجنوبية، والمصنف إسرائيلياً "العقل العملياتي" في الحزب، وتعتبره واشنطن "إرهابياً عالمياً". وما لبث أن أعلن الحزب في بيان عن مقتله، وقال إن الطبطبائي يُعد من قياداته الميدانية المخضرمة. وأكد البيان أن مقتل الطبطبائي سيمنح مقاتليه "عزيمة إضافية" للاستمرار في المواجهة، مقدماً التعازي لعائلته ولعائلات قتلى آخرين قال إنهم سقطوا في الهجوم ذاته.

من هو "أبو علي" الطبطبائي؟

الطبطبائي على لائحة الأهداف الإسرائيلية منذ أعوام، وبعد حادثة الاغتيال، قالت "القناة 12" إن إسرائيل حاولت تصفيته مرتين خلال الحرب (حرب الإسناد)، وهذه هي المرة الثالثة.

وفي عام 2015 وبحسب الإعلام الإسرائيلي، كان هو الهدف الأساسي لعملية القنيطرة في الجولان، والتي قتل فيها القيادي الإيراني محمد علي الله دادي وجهاد عماد مغنية، ابن القيادي عماد مغنية، وعدد من عناصر "حزب الله"، قبل أن يتبين أنه نجا من الغارة. وقال حينها مراسل "القناة العاشرة" للشؤون العسكرية الإسرائيلي ألون بن دافيد "صحيح أن الضربة استهدفت جهاد مغنية، إلا أن الهدف الأساسي لعملية التصفية كان أبو علي الطبطبائي، الشخص الذي يبني القوة الهجومية لـ‘حزب الله‘، والذي يدرب رجاله لاجتياح الجليل واحتلال المستوطنات".

يعتبر الطبطبائي أحد مهندسي قوات النخبة وشارك في الحرب السورية على محاور قتالية عدة (أ ف ب)

 

ويعتبر الطبطبائي أحد مهندسي قوات النخبة، وشارك في الحرب السورية على محاور قتالية عدة، وسعى لاحقاً لتعزيز الحضور الميداني للحزب في جنوب سوريا. ووفقاً للمعلومات المتداولة، فأن الطبطبائي كان الشخصية الأساس في إدارة "حرب الإسناد"، وحاولت إسرائيل تصفيته بعد اغتيال فؤاد شكر. وبعد اتفاق وقف إطلاق النار، تولى القيادة العسكرية للحزب، وارتبط اسمه بمحاولات تهريب السلاح عبر خطوط سرية من سوريا. ووضعت الولايات المتحدة الطبطبائي على قائمة المطلوبين الدوليين مع مكافأة ضخمة تصل إلى 5 ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى اعتقاله. شارك في العديد من العمليات العسكرية والنوعية، على مواقع وقوات الجيش الإسرائيلي، خلال فترة ما قبل التحرير عام 2000. واستلم مسؤولية قوات التدخل في الحزب بعد مقتل القيادي عماد مغنية، وشارك في تأسيس وتطوير "قوة الرضوان". وهو من القادة الرئيسيين في الحزب الذين أداروا وأشرفوا على عمليات معركة "أولي البأس" في عام 2024.

الرسائل الإسرائيلية بالجملة

لم يكن اغتيال هيثم الطبطبائي مجرد ضربة أمنية في عمق الضاحية، بل إعلاناً صريحاً موجهاً إلى الدولة اللبنانية نفسها في رسالة إذلال سياسي. فعملية الاغتيال ليست عملية عسكرية معزولة، بل رسالة استراتيجية مركبة تريد إسرائيل إيصالها على أربعة مستويات متوازية. تقول تل أبيب بوضوح إن لبنان الرسمي خرج نهائياً من معادلة الأمن، وإن القرار الحقيقي على الأرض لا يحمله الجيش ولا المؤسسات، بل جهة واحدة تقرر الحرب والسلم. وفي اللحظة التي تدخل فيها طائرة معادية وتضرب في قلب العاصمة من دون أن تهتز أركان الدولة، تكون الرسالة قد وصلت، لا دولة هنا، بحسب أمنيين. لا تكتفي إسرائيل بمهاجمة "حزب الله"، بل تُمعن في إحراج لبنان ككيان سياسي، وتعلن أن تراخي الدولة اللبنانية وتقاعسها عن تحمل مسؤولياتها في نزع سلاح الحزب والغياب المزمن للسلطة عن الحدود والمعابر وصلا الذروة. وعبر رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو عن هذا التوجه معلناً أن "إسرائيل لن تسمح لـ‘حزب الله‘ بإعادة بناء قوته، أتوقع من الحكومة اللبنانية أن تتحرك وتفي بالتزاماتها". وفي منشور على "إكس"، قال مكتب نتنياهو إن الأخير "أمر بتنفيذ الضربة بناءً على توصية وزير الدفاع ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن جهته، أكد المسؤول السابق في الخارجية الأميركية توماس واريك أن واشنطن أُبلغت بالضربة، لكنها لم تُبلغ بهوية المستهدف. وأشار واريك وفي حديث إعلامي إلى أن الطبطبائي مصنف أميركياً كإرهابي، معرباً عن قناعته بأن إسرائيل "لن تسمح بتهديد مواطنيها في الشمال في ظل مساعي الحزب لإعادة بناء قدراته العسكرية". ونقل موقع "أكسيوس" عن مسؤول أميركي رفيع قوله "إسرائيل لم تبلغنا مسبقاً بالهجوم على الضاحية الجنوبية وأبلغنا فور وقوعه". وأوضح المسؤول "كنا نعلم منذ أيام أن إسرائيل تخطط للتصعيد في لبنان لكن لم نعلم بتوقيت الضربة".

الاغتيال "بيان رفض" للتفاوض مع لبنان

وبرأي بعض المتابعين، عملية الاغتيال جاءت أيضاً رداً على كلام رئيس الجمهورية جوزاف عون، في خطابه بمناسبة الذكرى الـ82 لعيد الاستقلال، والذي أعلن فيه أن الجيش اللبناني جاهز لتسلم النقاط المحتلة في الجنوب ومستعد للتفاوض. وجاءت عملية الاغتيال في قلب الضاحية كجواب إسرائيلي واضح، لا تفاوض ولا دور للجيش في رسم معادلات الشمال، وأي مسار دبلوماسي لبناني مستقل، أو محاولة لاستعادة الدولة زمام المبادرة الحدودية، هو مسار غير مقبول طالما أن "حزب الله" هو الذي يتحكم بالميدان، وأنها لن تسمح للدولة اللبنانية بأن تتقدم بطرح إدارة الحدود، أو إعادة تموضع الجيش كمرجعية أمنية، لأن المعركة بالنسبة لها تدور حول تغيير الواقع بالقوة لا عبر الطاولات، طالما أن قرار الحرب والسلم ليس ملك الدولة اللبنانية، وفق محللين سياسيين. وبهذا تتحول عملية الاغتيال إلى بيان رفض إسرائيلي، مفاده بأن تل أبيب لن تخضع لمعادلات لبنانية جديدة، ولن تمنح الدولة أي هامش لاستعادة سلطتها في الجنوب ما لم تستعيد سيادتها الفعلية. ومن خلال هذا الاغتيال، يُساق لبنان إلى موقع المتفرج على معركة تدار فوق أرضه، فيما تفرض عليه الترتيبات الأمنية من الخارج.

كان الطبطبائي الشخصية الأساس في إدارة "حرب الإسناد" وفق معلومات متداولة (أ ف ب)
رسالة قوة... "الضاحية ليست آمنة"

وعبر تنفيذ إسرائيل عملية نوعية في أعمق نقاط نفوذ "حزب الله"، في منطقة تعد الأكثر تحصيناً أمنياً، هذا يعني أن تل أبيب تريد القول بوضوح، إن قدرتنا على الوصول إلى القلب الأمني للحزب لا تزال قائمة على رغم اتفاق وقف إطلاق النار، وإنه ليس هناك أي "خط أحمر" لا جغرافياً ولا سياسياً، يمنع إسرائيل من الضرب حيث تشاء، وفي دليل واضح أن الخروقات الاستخبارية الإسرائيلية ما زالت تنخر جسد الحزب.

‏وأشار الإعلام الإسرائيلي إلى أن "الضربة التي يتلقاها ‘حزب الله‘ اليوم مزدوجة، بل مضاعفة. فليس الأمر مقتصراً على تصفية أحد أبرز مسؤوليه العسكريين، بل إن هناك بُعداً آخر للحدث. فمنذ بدء وقف إطلاق النار قبل نحو عام، ظل قادة الحزب يؤكدون أنهم تعلموا الدروس وسدوا الثغرات الاستخباراتية التي سمحت لإسرائيل سابقاً بتصفية كامل الصف القيادي الأول في التنظيم. لكن اغتيال اليوم يدحض هذه الادعاءات، إذ تحاول إسرائيل، وربما تنجح، في القضاء على أحد آخر قائدين عسكريين بارزين ما زالا في موقعهما داخل التنظيم. وإذا قرر ‘حزب الله‘ الرد على عملية الاغتيال اليوم وجرى استدراجه إلى بضعة أيام من القتال، فعليه أن يأخذ في الحسبان أن الجيش الإسرائيلي ما زال يحتفظ بقدراته الاستخباراتية، وسيكون قادراً على الوصول إلى المسؤولين الشيعة الكبار الذين نجوا من الجولة السابقة".

الحزب عاجز عن حماية معقله

وفي البعد النفسي والإعلامي، تريد إسرائيل إظهار أن منظومة أمن الحزب مخترقة، وخلق شعور بالاهتزاز داخل بيئته، بأنه لا يملك القدرة على حماية قياداته أو معاقله الداخلية، لتطرح تلك البيئة سؤالاً، "كيف تستهدف قيادات الصف الأول في عقر دارنا؟". أيضاً هي تريد دفع الحزب إلى رد غير محسوب، أو على الأقل رفع كلفة معادلته الردعية، لأنها تدرك أن ضرب الضاحية يحدث صدمة، وتراهن على أن هذا الضغط سيربك الحزب ويربك الدولة اللبنانية معاً.

من هنا، فإن هذه العملية ستضع الحكومة اللبنانية أمام خيارين، إما ضبط الحزب أو تحمل تبعات قيامه بفتح الجبهة، لأن السكوت بالنسبة لها يعني "التواطؤ"، بخاصة إذا أضفنا ما يشار له في الإعلام الإسرائيلي بأن خطاب الدولة اللبنانية هو نفسه خطاب "حزب الله". وعليه ترفع إسرائيل مستوى الضغط السياسي على الدولة لتخفيف الغطاء عن الحزب، لا سيما في أي مفاوضات مستقبلية مع واشنطن أو الأمم المتحدة، وإلا سيتم تحييد الدولة كفاعل في أي تفاوض، بما أنها لا تملك القدرة على فرض شروط على الحزب، وبالتالي، لن تكون طرفاً مقرراً في أي اتفاق جديد حول الحدود، لذا تتعمد إسرائيل إظهار الدولة اللبنانية كعنصر هامشي. وتستبق إسرائيل أي مسار سياسي أو تفاوضي، ولن تقبل بعودة الحزب إلى الجنوب كما كان. ومن منظار إسرائيلي فإن الدولة عاجزة عن نزع سلاح الحزب، في حين هي تضرب في مركز نفوذه، وبالنسبة لها فإن السلطات اللبنانية جزء من المشكلة طالما لم تضبط الحزب، حتى لو كان لبنان الرسمي صامتاً أو محايداً. وبحسب خبراء في الشأن العسكري، فإن إسرائيل تريد أن تُسقط الهيبة المتبقية للدولة اللبنانية، لتصبح أي ترتيبات أمنية مستقبلية مفروضة من جانب واحد، لا نتيجة تفاوض متوازن.

وضعت الولايات المتحدة الطبطبائي على قائمة المطلوبين الدوليين مع مكافأة ضخمة تصل إلى 5 ملايين دولار مقابل معلومات تؤدي إلى اعتقاله (موقع وزارة الخارجية الأميركية)
هل سيرد "حزب الله" وكيف؟

على رغم ضخامة اغتيال هيثم الطبطبائي ووقعه داخل الضاحية، فإن رد "حزب الله" لن يكون مفتوحاً أو مطلق اليد. فالسقوف التي تحكمه اليوم باتت أكثر صرامة من أي وقت مضى، لأن قرار الرد لم يعد شأناً لبنانياً صرفاً، بل مرتبطاً بالحسابات الإيرانية الدقيقة في لحظة إقليمية معقدة. فطهران هي التي ترسم الإيقاع الاستراتيجي لمحورها، وهي التي تحدد متى يكون الرد رادعاً ومشروعاً، ومتى يتحول إلى استفزاز أميركي- إسرائيلي لا يمكنها تحمل تبعاته، ولأن الرد سيكون على أراضيها ربما وليس في لبنان، وفق الخبراء ذاتهم.

من هنا، يتحرك "حزب الله" ضمن ثلاثة ضوابط أساسية. أولاً، سقف عدم جر إيران إلى حرب مع واشنطن. فإيران تدير ملفاتها مع الولايات المتحدة على حافة التفاوض، سواء في النووي أو في العراق أو في الخليج، ولا تريد أن يمنح رد من جنوب لبنان إسرائيل ذريعة لخلط الأوراق أو فتح مواجهة مباشرة مع الإيرانيين. وهذا يضع الحزب تحت قيود تمنعه من تنفيذ رد كبير يتجاوز حدود "التوازن".

ثانياً، سقف حماية البنى الصاروخية والقيادية داخل لبنان، أن أي رد متهور سيسمح لإسرائيل باستهداف طبقة قيادية إضافية أو بنية صاروخية دقيقة، وسيُعد خسارة استراتيجية للحزب ولطهران معاً. لذلك يميل الحزب إلى رد محسوب، إن وجد، يُثبت المعادلة من دون إعطاء إسرائيل مبرراً لقصف الطبقة الأعلى من القيادة.

ثالثاً، سقف الانهيار اللبناني، ويدرك الحزب أن حرباً واسعة اليوم ستدفع لبنان إلى كارثة اقتصادية واجتماعية لا قدرة له على إدارتها، وأن طهران لن تتحمل أعباء دعم جبهة منهارة بالكامل. لذلك، أي رد سيبقى تحت سقف يمنع انفجاراً ميدانياً كاملاً.

لهذه الأسباب، سيكون رد "حزب الله"، إن حصل، محدوداً في الزمان والمكان والنوعية، ضربة مؤلمة، لكنها محكومة بإشارات طهران، وبشروط لعبة أكبر منه. فالحزب يريد استعادة التوازن، لكن إيران تريد ضبط الإيقاع، لا فتح معركة خارج جدول أعمالها. وأعلن رئيس المجلس السياسي في الحزب محمود قماطي، وفي تصريح من موقع الغارة، أن الهجوم يشكل خرقاً جديداً لخط أحمر، مؤكداً التزام الحزب بالتنسيق الكامل مع الدولة والجيش اللبناني. وأضاف ألا خيار سوى التمسك بـ"المقاومة"، وأنه لا يمكن القبول باستمرار هذا النوع من الاستباحات. ورأى أن الاعتداء الإسرائيلي دليل إضافي على أن إسرائيل لا تلتزم بالاتفاقات ولا ترغب بتنفيذ أي منها، معتبراً أن أي تفاوض جديد معها سيكون مضيعة للوقت، وأن واجب الجيش والشعب و"المقاومة" هو العمل على وقف هذه الاستهدافات.

سقوط الرواية الكبرى

الأخطر هنا، هو سقوط الرواية الكبرى، فالسلاح الذي قُدم كدرع حماية لم يمنع اغتيالاً في قلب "البيئة الحاضنة"، ولم يصن هيكل الحزب، بل جلب الدمار والعزلة وانهيار الدولة. والإصرار على بقائه لم يعد مسألة "مقاومة"، بل ورقة ابتزاز إيرانية تستخدم لإثبات أن الحزب ذراع تابعة لا قوة لبنانية مستقلة.

سيكون رد "حزب الله"، إن حصل، محدوداً في الزمان والمكان والنوعية​​​​​​​ (أ ف ب)

 

في السياق كان لافتاً بيان النعي الذي أصدره الحزب لهيثم الطبطبائي، في غياب عبارة "شهيداً على طريق القدس"، التي تستخدم عادة لوضع العملية ضمن إطار المحور الإقليمي. وبدل ذلك، قدم الحزب الرجل كـ"شهيد دفاعاً عن لبنان وشعبه"، في إشارة واضحة إلى رغبة الحزب في حصر الحدث ضمن الساحة اللبنانية، وتخفيف التوظيف الإقليمي للاغتيال. هذا الاختيار اللغوي ليس تفصيلاً، بل يعكس محاولة واعية وحذرة لتجنب خطاب قد يدفع نحو تصعيد واسع، ولإظهار أن المعركة الراهنة تدار تحت عنوان حماية لبنان لا تحت عنوان "طريق القدس".

إسرائيل بدورها تستخدم الاغتيال كأداة لتحسين شروط التفاوض.

في المرحلة الحالية، تضغط واشنطن من أجل تهدئة وعودة الحزب شمال الليطاني، وتعلم إسرائيل أن أي اتفاق لن يكون لمصلحتها إلا إذا، ضُربت قيادات الحزب وتراجعت قدراته الميدانية إلى أدنى حد، وجرى إضعاف "غرفة العمليات المشتركة". لذلك هي تستجلب رداً من الحزب لتقول للأميركيين، "نحن تحت النار، ونحتاج غطاء لعملية أوسع أو لتشديد الشروط". بمعنى آخر، إسرائيل تريد أن ترفع سقفها السياسي عبر استفزاز مضبوط.

استفزاز الحزب لجره إلى رد يفضح حجمه الحالي

وتراهن تل أبيب على أن أي رد من الحزب سيكشف حجم جاهزيته الفعلية ونوعية قدراته بعد عام من الاستنزاف، ومدى قدرته على حماية قياداته، بمعنى أن الرد المتوقع سيكشف ما إذا كان الحزب ما زال يمتلك أسلحة نوعية أم لا، وإثبات صحة التقارير التي تتحدث عن أن الحزب أعاد ترميم ترسانته طوال هذا العام، وهذا اختبار استراتيجي لإسرائيل. كما أن جر الحزب إلى رد سيبرر عمليات تصفية جديدة، وسيمنحها الشرعية لاغتيالات إضافية. وبالتالي، الاغتيال يشكل مرحلة افتتاحية لعمليات متتالية تطاول القيادات العملياتية ومسؤولي الوحدات النوعية ورموز صناعة القرار الميداني.

لبنان ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات

في المحصلة تأتي عملية اغتيال، هيثم الطبطبائي، كاستفزاز محسوب ومقصود، هدفه دفع الحزب للرد واستخدام الرد لتبرير تصعيد محدد وإعادة رسم ميزان الردع وفرض قواعد جديدة على الجبهة الشمالية. ووضعت العملية لبنان أمام مشهد مشوش، بلد تدار المعارك من فوق مؤسساته، وتحسم قرارات الحرب والسلم خارجه، فيما يتحول إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات بين إسرائيل ومحور إيران. فالاغتيال في قلب الضاحية لا يكشف فقط هشاشة البيئة الأمنية، بل يكشف أيضاً اختفاء الدولة من معادلات الردع، بحيث بات لبنان مجرد مساحة عمليات، لا طرفاً مقرراً فيها.

في المقابل، أعادت العملية إسرائيل إلى موقع المبادِر الذي يصنع توقيت التصعيد وشكله، وليس من يرد عليه. إسرائيل تظهر اليوم كقوة مستعدة لفرض قواعد جديدة، والتقدم خطوة إضافية نحو تفكيك بنية "حزب الله" القيادية، ولو عبر ضربات داخل العمق اللبناني، غير آبهة بالوسطاء أو بالتحذيرات الدولية.

والسؤال، هل تتجه الأمور نحو التصعيد؟ والجواب أن المنطقة تقف على خط رفيع، إسرائيل تدفع الأمور نحو حافة الاشتباك، لكنها لا تريد حرباً شاملة، و"حزب الله" مضطر للرد حفاظاً على توازنه، لكنه مقيد بضوابط إيرانية صارمة، ولبنان الرسمي غائب، وبالتالي عاجز عن منع الانزلاق أو احتوائه.

والنتيجة الحتمية، تصعيد محدود وارد جداً وحرب واسعة غير مرجحة الآن، لكنها لم تعد مستحيلة، فالاغتيال رفع مستوى المخاطرة وخفض هامش المناورة وأدخل الجبهة في مرحلة جديدة عنوانها "التوازن تحت النار".








إقرأ المزيد