أزمة الحكم في كردستان العراق ترجح التوأمة الحزبية على الانتخابات المبكرة
هذا اليوم -

جانب من جلسة سابقة لبرلمان إقليم كردستان العراق (أ ف ب)

بعد مضي أكثر من عام على إجراء انتخابات برلمان إقليم كردستان العراق، وبعد اجتياز محطة الانتخابات الاتحادية، بلغ ملف تشكيل حكومة كردية جديدة مرحلة تفاوضية معقدة، إثر إخفاق الحزبين التقليديين الحاكمين في التوصل إلى تفاهمات، مع بروز التلويح بخيار الذهاب لإجراء انتخابات مبكرة، في مشهد يطغى عليه الخلاف على معايير تقاسم المناصب في حزمة واحدة تشمل الحصة الكردية في الحكومة الاتحادية المنتظرة، ليضع الإقليم أمام سيناريوهات مفتوحة.

وفشل البرلمان الكردي في عقد جلسة لانتخاب هيئته الرئاسية منذ الانتخابات البرلمانية التي جرت في أكتوبر (تشرين الأول) 2024، والتي أفرزت نتائج لم يحصد على أثرها أي تكتل أكثر من نصف مقاعد البرلمان البالغة 100 مقعد، إذ تصدر "الحزب الديمقراطي" بزعامة مسعود بارزاني الكتل بـ39 مقعداً، فيما جاء "الاتحاد الوطني" بزعامة بافل طالباني ثانياً بـ23 مقعداً، لكن واقع النفوذ الإداري والعسكري المنقسم بين أكبر حزبين في الإقليم يفرض صعوبة بالغة في إبعاد أي منهما عن الحكومة، كذلك فإن مختلف قوى المعارضة التي تحتل نحو ثلث المقاعد بالبرلمان الإقليمي رفض معظمها قطعياً الانضمام إلى الحكومة الجديدة.

تضارب في المعايير

وعلى رغم خوض الحزبين سلسلة محادثات، فإنهما أخفقا في بلورة صيغة مكتملة للشراكة، فحزب بارزاني يتمسك باتخاذ النتائج معياراً لتقاسم المناصب، في حين يرفض حزب طالباني المشاركة في حكومة يكون دوره فيها "هامشياً مع هيمنة البارزانيين على المناصب الرئيسة على غرار الحكومات السابقة".

وفي وقت يخوضان في خلاف مماثل على مستوى مفاوضات تشكيل الحكومة الاتحادية، فإن مسؤولي الحزب الديمقراطي بدأوا بالتصعيد والتلويح بورقة الذهاب إلى انتخابات مبكرة، بحال استمرار الخلاف، في حين يرى قياديو "الاتحاد الوطني" أن هذا الخيار لن يكون مجدياً "ما دامت معادلة المقاعد لن تتغير".  

وانطلق سباق التجاذب والاستقطاب سريعاً بين الحزبين بعد مرور أسبوع فقط على إجراء الانتخابات الاتحادية التي حصد على أثرها الأكراد نحو 60 مقعداً من مجموع مقاعد البرلمان البالغة 329 مقعداً، وتصدر حزب بارزاني القوى الكردية بحصوله على 27 مقعداً مقابل 18 لحزب طالباني.

وبرز تفوق "الحزب الديمقراطي" بزيارة لافتة قام بها زعيم "ائتلاف دولة القانون" نوري المالكي إلى أربيل للقاء بارزاني، إضافة إلى مشاركة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني وقادة آخرين من القوى الشيعية في منتدى بمدينة دهوك الواقعة ضمن نطاق نفوذ حزب بارزاني، من دون حضور زعيم حزب "الاتحاد الوطني" بافل طالباني.
في المقابل، أجرى وفد عن "الاتحاد الوطني" جولة محادثات مع مختلف القيادات السياسية في بغداد ضمن محاولات لتعزيز موقعه في مفاوضات تشكيل الحكومة المقبلة.

على هامش حضوره لمنتدى في محافظة دهوك الكردية رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني يلتقي مع زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني (منصة الحزب الديمقراطي الرسمية)

  سباق نحو التحالفات

ويواجه الحزبان الكرديان سيناريوهات عدة يبدو من خلالها أن الاستمرار على النسق السابق هو الأكثر ترجيحاً وفق معطيات ربما لا تختلف كثيراً عن مآلات التجارب السابقة، فالذهاب إلى انتخابات مبكرة سيتطلب إجماعاً سياسياً وفي النهاية قد تفرز النتائج السابقة ذاتها، وعليه فإن "الاتحاد الوطني" يفضل تحقيق توافق سياسي، بداعي أن الأزمة داخلية "يمكن حلها بالحوار وليس بالتصعيد"، فيما يكمن السيناريو الثاني في أن يدعو "الديمقراطي" إلى انعقاد البرلمان بنصاب قانوني من دون الاتحاديين، وهذا من شأنه أن يوسع الهوة في الحكم الذي ما زال مقسماً مناطقياً بين الحزبين.

إلا أن المراقبين يرون في خيار تحقيق "تسوية شاملة" حول المناصب في الإقليم وحصة الكرد في بغداد حلاً أكثر واقعية، بحكم النتائج السابقة لتجارب الصراع، ومع وجود ضغوط أميركية وغربية لمنع تفكك مؤسسات الإقليم، وكذلك خشية "الديمقراطيين" من انجراف "الاتحاديين" نحو الدخول في تحالف بديل مع القوى الشيعية، وإدراك "الاتحاديين" أيضاً لتبعات العزلة على نفوذه والرأي العام الكردي.

وعلى رغم أن كلا الحزبين كان أكدا عقب اجتماعات عدة بينهما عن وجود تفاهمات مبدئية، فإن الشد والجذب بقي قائماً في شأن المناصب التي يطالب بها "الاتحاد الوطني"، بخاصة وزارة الداخلية، وأخيراً أظهرت المواقف تحولاً في خطاب قادة "الديمقراطي" يشي بأنهم سيدخلون المفاوضات بناءً على المتغيرات التي حصلت بعد الانتخابات الاتحادية التي "تفترض احترام إرادة الناخبين"، في حين يتمسك "الاتحاد الوطني" بتوفير "ضمانات حقيقية للشراكة" وعدم تكرار صيغة التهميش التي سادت في الحكومات الكردية السابقة.

زعيم حزب الاتحاد الوطني بافل طالباني في يستقبل في مقره بالسليمانية المبعوث الأممي إلى العراق محمد حسان (منصة حزب الاتحاد الوطني الرسمية)

  مسار قانوني متشعب

وفي الجانب القانوني فإن حل البرلمان الكردي سيواجه عقبات، وفق الحقوقي جومان محمد، الذي قال إن ذلك يتحقق من خلال بنود ومواد واردة في قانون رئاسة الإقليم رقم 1 لعام 2005 وهي أنه "في حال تصويت أكثر من نصف الأعضاء لسحب الثقة من هيئة الرئاسة، وعدم اكتمال النصاب للانعقاد خلال 45 يوماً من دعوة رئيس الإقليم لعقد الجلسة، وكذلك في حال عدم منح الثقة لثلاثة تشكيلات وزارية متتالية، أو في حال تغيير النظام الانتخابي، وفي حال بقي أقل من ستة أشهر من عمر الدورة البرلمانية، حتى لو أراد نصف أعضاء البرلمان الاستقالة فإنه يجب انتخاب هيئة رئاسة البرلمان من أجل تنظيم عملية التصويت، وهذا شبه مستحيل، فلم يبدِ أحد رغبة بذلك، ثم إن هذا العدد سيتطلب موقفاً مسانداً من الحزب الديمقراطي".
وفي حال استمرار الخلاف فإن هناك خيار اللجوء إلى المحكمة الاتحادية في بغداد، لكن محمد يرى أن هذا المسار لن يكون سهلاً، "إذ سبق أن ردت دعوى لحل البرلمان الكردي لعدم الاختصاص، كذلك ردت دعوى مماثلة لحل البرلمان الاتحادي للسبب نفسه"، واستدرك "لكن هذا لا يمنع من رفع دعوى، لأنه حصل أن قضت المحكمة بحل الدورة السابقة لعدم دستورية تمديد ولايته، بمعنى أنه يمكن تقديم الطعن بالجلسة الأولى للبرلمان بدل طلب حله بداعي عدم تحقيق النصاب، أو إبقاء جلسته مفتوحة، أو أي سبب يمكن أن يكون غير دستوري".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نزال جديد قديم

ووفق المعطيات تنظر نخبة من السياسيين والمراقبين إلى خيار الانتخابات المبكرة كورقة ضغط أو أداة للتفاوض لرفع سقف المطالب خلال المفاوضات، وهو في النهاية "ليس خياراً عملياً"، بحكم عوامل واقع نفوذ الحزبين الراسخ، وإن كان يميل لمصلحة "الديمقراطيين" بنسبة أكبر، كذلك فإن الإقليم واقع تحت تأثير مصالح اللاعبين الرئيسين في المعادلة الإقليمية، في مقدمها تركيا وإيران، وجهات أخرى دولية فعالة متمثلة بالولايات المتحدة التي تدفع الطرفين نحو التفاهم بدل التصعيد.
وإلى جانب الخلاف على المناصب في الإقليم، فإن مؤشرات الخلاف على مثيلتها في بغداد بدأت تظهر في إعادة لمشهد الانتخابات السابقة عندما وقف "الديمقراطيون" ضد إعادة ترشيح برهم صالح عن "الاتحاد الوطني" لرئاسة الجمهورية العراقية، الذي يعتبره الحزب ضمن استحقاقه منذ أن تولاه مؤسسه الراحل جلال طالباني، في إطار عرف سياسي اعتمدته القوى السياسية لتقسيم الرئاسات الثلاث، أصبح بموجبه منصب رئاسة الجمهورية من حصة الكرد، ورئاسة الوزراء للشيعة، ورئاسة البرلمان للسنة. 

وفد رفيع من حزب طالباني يلتقي السوداني في بغداد في إطار مفاوضات تشكيل حكومة اتحادية جديدة (الإعلام المركزي لحزب الاتحاد الوطني)

  خرق لقاعدة العرف

وتحذر قراءات من دخول "الديمقراطيين" في منافسة مع "الاتحاديين" على منصب رئاسة الجمهورية مما سيعمق حال الشرخ، وفي هذا السياق حذر المحلل الكردي سرتيب جوهر من أن "يؤدي ذلك إلى زعزعة توازن القوى في الإقليم كلياً، ومن ثم لن يعقّد من مسار تشكيل حكومة الإقليم وحسب، بل قد يؤدي في نهاية المطاف إلى العودة إلى حال حكم الإدارتين، وسيزيد وضع الإقليم السياسي تعقيداً وسيتجه نحو مأزق دستوري ما لم يحصل ضغط خارجي".

زعيم تيار الحكمة الشيعي عمار الحكيم يجتمع مع زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود بارزاني في دهوك  (المنصة الرسمية للحزب الديمقراطي)

  التوأمة قدر الحكم

وبالنظر إلى حسابات نقاط قوة، فإن "الديمقراطي" يتفوق بفارق واضح في عدد المقاعد، في البرلمانَين الكردي والاتحادي، كذلك يفرض هيمنته على سلطة القرار في أربيل، ويرتبط بعلاقات جيدة مع قوى سنية بخاصة تلك المحسوبة على المحور التركي، ويفرض موقعه كأحد أكبر الأحزاب على نظرائه من القوى الشيعية للدخول معها في تفاهمات، مدعوماً بموقعه الفاعل في المعادلة الإقليمية والدولية، هذا فضلاً عن امتلاكه ورقة اقتصادية مؤثرة تكمن في وقوع معظم حقول النفط المهمة وكذلك خط أنابيب التصدير إلى ميناء جيهان التركي ضمن نطاق نفوذه.
أما "الاتحاد الوطني" فإن منطقة نفوذه التي ترتكز في السليمانية ومناطق في جنوب وشرق الإقليم، تضم أكبر حقل للغاز على مستوى البلاد إلى جانب حقول نفطية، ويعد الغاز المصدر الرئيس الذي يعتمد عليه الإقليم لتشغيل منظومته الكهربائية، وسبق أن أكد زعيمه بافل طالباني رفضه تصدير الغاز على غرار آلية تصدير النفط إلا بشروط جديدة، هذا إلى جانب وقوع أكبر سدود الإقليم في نطاقه. وعلى الجانب السياسي يمتلك علاقات مميزة مع القوى الشيعية الحاكمة في بغداد وذلك بفضل صلته الوثيقة الممتدة لعقود مع النظام في إيران، وكان لوّح للحزب الديمقراطي في مناسبة سابقة بفك ارتباطه بأربيل والتعامل مباشرة مع بغداد.    

وفي ضوء هذه المعادلة يشير مصدر سياسي مطلع إلى أن التوأمة في إدارة حكم الإقليم تبدو أكثر منطقية، لجهة أن جل حكومات الإقليم السابقة تشكلت في آخر المطاف وفق تفاهمات من دون هيمنة أحادية مطلقة لمصلحة أي من الطرفين، ما دام التداخل في مصادر القوة يجعل التشارك في الإدارة خياراً شبه حتمي للحفاظ على الاستقرار، فمحاولات الاستفراد بالقرار والتنازع أفقدت الأكراد مكاسب كانوا حققوها بعد سقوط النظام العراقي السابق، وقد استغلتها حكومة بغداد في الأعوام القليلة الماضية عبر صدور قرارات من المحكمة الاتحادية أفضت إلى تحكمها بإدارة ملف نفط الإقليم، كذلك ألغت قوانين شرعها البرلمان الكردي.








إقرأ المزيد