السبيل إلى إنهاء حرب محتملة في تايوان
هذا اليوم -

جنود تايوانيون يخرجون من نفق عسكري في كينمن - تايوان، أكتوبر (تشرين الأول) 2025 (رويترز)

ركز كُثر في واشنطن خلال الأعوام الأخيرة الماضية على مسألة ردع الصين عن غزو تايوان، وفي هذا الإطار، وقبل تسلمه مهماته في وقت سابق من هذا العام، أكد وكيل وزارة الدفاع الأميركية لشؤون السياسيات إلبريدج كولبي أن على تايوان أن تكون "في أقصى درجات التركيز لاعتماد إستراتيجية "دفاع الحرمان" في وجه الغزو، وهي إستراتيجية تعني حرمان العدو من النجاح، إذ يمكن لمجموعة من أنظمة الأسلحة الصغيرة وغير المكلفة (التي تعتمدها تايوان) أن تمثل بالفعل وعداً كبيراً في صد أي هجوم برمائي صيني، لذا فإن إستراتيجية الدفاع الوطني الجديدة لإدارة ترمب محقة في تبني أسلوب دفاع الحرمان بغية منع غزو تايوان.

بيد أن صد الغزو لا يعني بالضرورة وقف الحرب، وفي هذا السياق يحذر الخبير في الشؤون العسكرية الصينية، جويل وثناو، قائلاً "لا يوجد سيناريو تقبل فيه الصين بعد فشل غزوها، تحمّل المسؤولية أو الإقرار بأن الحلول العسكرية غير مجدية، أو التحول إلى مجموعة مختلفة كلياً من الأهداف السياسية تجاه تايوان"، وفي أعقاب أي غزو فاشل سيكون من غير المرجح أن يكتفي شي جينبينغ (أو من يخلفه) بالانسحاب والعودة للداخل، بل قد يرى القادة الصينيون أن الاستمرار في القتال بات أقل كلفة من التراجع.

لهذا يرى عالم السياسة مايكل بيكلي أن "الحرب على تايوان قد تتحول على الأرجح إلى حرب ممتدة، كما حصل مع كل حروب القوى العظمى تقريباً منذ الثورة الصناعية"، فالحرب العالمية الثانية لم تنته إلا عندما احتل الحلفاء العاصمة الألمانية (برلين)، وبعد أن ألقت الولايات المتحدة قنبلتين نوويتين على اليابان، ولا يبدو أي من الخيارين المذكورين مطروحاً في سياق الحرب الأميركية -الصينية، وعلى واشنطن أن تجد سبلاً أخرى لإنهاء الحرب، ولذلك يجب على الولايات المتحدة خلال الأعوام المقبلة أن تستعد بقوتين: واحدة لصد الغزو الصيني وأخرى لإنهاء الصراع، فمنع الحرب من الأساس سيعتمد جزئياً على أشكال مبتكرة من الردع القائم على الحرمان من الفوز، وهو ما ركزت عليه إدارة ترمب وغيرها، لكن قدرات الحرمان وحدها لن تكفي، وإنهاء حرب تستمر حتى بعد فشل الغزو سيتطلب أيضاً الاعتماد على أساليب تقليدية في إسقاط القوة.

الردع القائم على الحرمان

لقد أتقنت الولايات المتحدة خلال القرن الـ 20 فن ممارسة قوتها في مختلف أنحاء العالم، فمزيج من القواعد العسكرية المتقدمة وحاملات الطائرات سمح للقوات الأميركية بتنفيذ العمليات في كل مكان، ومع سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991 عنى تفوق الجيش الأميركي أيضاً أن مجموعة واحدة من القوى العسكرية بوسعها بالتزامن اعتماد أسلوبين متمايزين من أساليب الردع: دفاع الحرمان والعقاب.

لنأخذ مثلاً هنا الدور الذي لعبته تشكيلات حاملات الطائرات الأميركية الضاربة خلال أزمة مضيق تايوان عام 1996، ففي ذلك الوقت كانت الصين تجري تدريبات عسكرية وتجارب على الصواريخ في المياه حول تايوان، ومع تصاعد التوترات قامت واشنطن بتحريك حاملتي طائرات على مقربة من الجزيرة، وقد مارست تلك المجموعات الردع بالحرمان من خلال التهديد بصد أي هجوم فعلياً، لكنها أيضاً مارست الردع بالعقاب عبر التلويح بعواقب قاسية إذا مضت بكين في خططها، إذ كان بإمكان الطائرات المنطلقة من الحاملات ضرب السفن المتجهة نحو الصين وحتى أهداف داخل البر الصيني.

بيد أن الولايات المتحدة بدأت خلال الأعوام القليلة الماضية بإعداد قواتها، وقوات حلفائها وشركائها أيضاً، لمهمات أكثر تحديداً، إذ إن القواعد المتقدمة وحاملات الطائرات تتطلب جهود إنشاء وصيانة عالية الكلفة، فيما تبقى عرضة للصواريخ الباليستية وغيرها من الأنظمة غير المتكافئة، ولذا يضغط مسؤولو البنتاغون للحصول على أنظمة أقل كلفة، إنتاجها رخيص نسبياً ومصممة كي تكون قابلة للاستهلاك المكثف والاستخدام من قبل وحدات (عسكرية) صغيرة تنشط ضمن المنطقة المتمددة التي تهددها الصين، وكما شرح القائد السابق لقوات مشاة البحرية الأميركية ديفيد بيرغر خلال مؤتمر لقطاع الصناعات الدفاعية عام 2021، فعلى الولايات المتحدة أن "تغدو مرتاحة مع الأشياء التي يمكن التخلص منها" (أي التقنيات والمعدات الرخيصة وغير المعقدة التي تستخدم لمرة واحدة ويجرى التخلص منها).

إنهاء الحرب على تايوان سيتطلب استعراض القوة بالطرق التقليدية القديمة

لكن استخدام الأنظمة رخيصة الكلفة في مواجهة العمليات القسرية والإخضاعية التي تمارسها الصين يومياً في الجو والبحر حول تايوان يبقى أمراً له حدود، فخلال العام الماضي رصدت تايوان 5105 طلعات جوية صينية في مجالها الجوي، والدفاع ضد هكذا هجمات جوية مكثفة يتطلب طائرات غالية الثمن لا مسيّرات تحلق على علو منخفض، والرد على الهجمات والاختراقات البحرية الصينية في المياه حول تايوان سيتطلب في سياق الحرب البحرية سفناً قادرة على مراقبة هذه التحركات ورصدها ومواجهة القوى الصينية عند الضرورة، إن لزم الأمر.

وحتى بعد اندلاع الصراع المفتوح تبقى إستراتيجية الحرمان مجرد حل جزئي، إذ يمكن للألغام والصواريخ الأميركية أن تغرق السفن الصينية وتقتل في السياق آلاف الجنود، لكن القادة الصينيين قد يتمسكون بسعيهم إلى تحقيق نصر جزئي في الأقل، وقد يحاول "جيش التحرير الشعبي" (الجيش الصيني) احتلال جزر تايوان النائية أو فرض حصار بحري تزامناً مع قيام ترسانته العسكرية بجعل المساحات المائية المحيطة بتايوان مناطق محظورة ومغلقة، وكما رأى ضابط الاستخبارات السابق لوني هينلي "فما من سبيل لنصر أميركي إلا عبر فرض حصار مديد"، ولهذا على الولايات المتحدة أن تكون قادرة على إقناع الصين بأن بكين ستواجه كُلفاً غير مقبولة إن استمرت في القتال بعد أية محاولة اجتياح فاشلة، وإستراتيجية دفاع الحرمان تمثل خطوة واحدة فقط، والتهديد بالعقاب هو الذي سيطرح الورقة النهائية الرابحة التي تلعبها الولايات المتحدة.

لا قدرة ولا إرادة على التوقف

توضح الحرب في أوكرانيا صعوبة إنهاء الصراع حتى بعد تعثر الغزو الأولي، فأوكرانيا بفضل أنظمة صغيرة وزهيدة مثل المسيّرات والألغام استطاعت حرمان روسيا من نصر سريع، بيد أنها فشلت في فرض كُلف عالية بما يكفي لإقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بوقف القتال، ولقد تكبدت روسيا خسائر فادحة في الحرب لكن بوتين رأى، على ما يبدو، أن كُلف مواصلة القتال تبقى أدنى من كُلف الاعتراف بالهزيمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشكل النموذج الروسي في هذا الإطار تحذيراً في شأن سلوك مشابه قد تعتمده الصين، فاحتمال فشل غزو تايوان بوسعه، من الناحية المثالية، أن يردع الصين، لكن القادة الصينيين قد يرون مغريات عدة في إطالة أمد الحرب عقب تكبدهم خسارة أولية، وهذه المغريات تستند إلى معطيين، أولاً أن القدرة الصناعية للصين تتخطى بدرجة كبيرة القدرة الصناعية للولايات المتحدة مما يجعلها قادرة على إعادة بناء قواتها بسرعة أكبر، وعلى مدى العقود الثلاثة الماضية شهدت الصين توسعاً هائلاً في قدراتها العسكرية، وقدّر مكتب الاستخبارات البحرية أن الصين تمتلك قدرة على بناء السفن تفوق الولايات المتحدة 230 مرة، وفي المقابل تعاني القوات المسلحة الأميركية نقصاً كبيراً في الذخائر مع توقع بعض الخبراء احتمال نفاد مخزون الذخائر الأميركي بعد أسابيع فقط أو حتى بعد أيام، من اندلاع نزاع مع الصين.

قد تعتقد الصين أيضاً من ناحية الإمدادات الأخرى أن بوسعها الصمود أكثر من واشنطن وتايبيه، فقد ثبت (في سياق الصراع الروسي - الأوكراني) أن نقل المؤن براً إلى أوكرانيا أمر صعب، لذا فإن حتى توصيل الضرورات الأساس عبر المياه إلى تايوان خلال نزاع مع الصين سيكون أمراً بالغ الصعوبة، إذ إن تايوان جزيرة صغيرة نسبياً ومخزونها من الغذاء والطاقة محدود، وفي المقابل توحي حركة التوسع المتسارع بمظاهر إنتاج طاقة الرياح والطاقة الشمسية والنووية في الصين بأن بكين قادرة على تحصين نفسها في مجال الطاقة بمواجهة الحصار الأميركي.

تعتقد بكين أنها قادرة على الانتصار في سباق الإرادات بمواجهة تايوان

قد يتحول الصراع حول تايوان في نهاية المطاف إلى اختبار للإرادات، وهو ما تعتقد بكين أنها ستكسبه، فقد وصف القادة الصينيون تايوان في هذا السياق بأنها "جوهر المصالح الأساس الصينية"، إلا أن وجهة نظر الرئيس الأميركي دونالد ترمب تبقى مختلفة تماماً، فخلال مقابلة مع "بلومبيرغ بيزنيس ويك" قال ترمب "تبعد تايوان عنا 9500 ميلاً، وهي على بعد 68 ميلاً من الصين، وأرى أن علينا فقط أن نكون أذكياء، إنها مسألة صعبة جداً جداً".

الشعب الأميركي يدعم تايوان، لكن أميركيين كثر لا يريدون نزاعاً مباشراً مع الصين، وحين طرح "مجلس شيكاغو للقضايا الدولية" عام 2024 سؤالاً على الأميركيين حول مدى التزامهم بالدفاع عن تايوان في مواجهة الغزو الصيني، عارضت أكثرية المستطلعين الالتزام بالدفاع أو عبرت عن ترددها في ذلك.

كما أن فشل الصين في صراع حول تايوان قد يهدد بقاء شي أو خلفه في السلطة ويقوض شرعية الحزب الشيوعي الصيني، ولذلك فقد يسعى شي إلى تجنب الاعتراف بالفشل ويأمر الجيش بمواصلة حرب غير ناجحة، ومن دون التهديد بالعقاب قد ترى القيادة الصينية أن الفشل يشكل خطراً أكبر من استمرار القتال، ولهذه الأسباب كلها قد يفضل القادة الصينيون مواصلة القتال حتى بعد تكبد هزيمة أولية، والولايات المتحدة في المقابل، كي تنهي النزاع، ستحتاج إلى ممارسة تهديد جدي بإنزال العقاب.

يدرك كولبي وغيره من مسؤولي إدارة ترمب ذلك بوضوح، فهو شارك عام 2022 في وضع تقرير يدعو إلى تنفيذ "عمليات عقابية انتقائية" و"فرض كُلف تدير النزاع على نحو إيجابي، والسعي إلى وقف الحرب مع الصين"، وقد تشمل تلك العمليات فرض حظر على الأصول الصينية في الخارج أو مصادرتها، لكن بكين تقوم منذ فترة بتحصين نفسها تجاه الضغوط السياسية والاقتصادية، لذا فإن التصعيد العسكري قد يكون مطلوباً، بما في ذلك تنفيذ ضربات على بنى تحتية أساس وعلى أجزاء من قاعدة الإنتاج العسكري والدفاعي الصيني، ومن شأن هذه الخطوات أن ترفع كُلف استمرار النزاع بالنسبة إلى الصين، لكنها أيضاً قد تطرح معضلة إستراتيجية.

مفارقة غولديلوكس

لكن هناك عوامل عدة قد تسهم في تعقيد أي تهديد بالعقاب، ويتمثل العامل الأول منها بما أطلق عليه باحثون في "مؤسسة راند" اسم "تحدي غولديلوكس" (Goldilocks)، إذ يجب أن تكون التهديدات بالعقاب قوية بما يكفي لإقناع بكين بإنهاء صراع تستثمر فيه بعمق، ولكن منخفضة بما يكفي لتجنب التصعيد غير المقبول مثل اللجوء إلى السلاح النووي، وإيجاد هذا التوازن ليس مهمة سهلة ولذا سيكون من المهم محاولة إبقاء المعركة الأساس على تايوان محدودة بغية إتاحة خيار أمام القادة الصينيين لخفض التصعيد، إذ إن قادة بكين قد يتراجعون بعد الزعم بأنهم لقنوا تايوان درساً، أو بعد سيطرتهم على بعض الأراضي المتنازع عليها، لكن الرسائل التي تبعثها الصين قبل حصول أي نزاع ربما تضع معايير أعلى، فالقادة الصينيون قد يقدمون على شيطنة تايوان والولايات المتحدة كي يحشدوا الدعم الشعبي بموازاة ترويجهم لتفوق جيش التحرير الشعبي والتجدد الصيني العظيم، فغزو تايوان قد يبدأ بأن تقوم بكين بحرق سفنها مجازياً كي تستبعد العودة للوراء.

في المقابل وفي أعقاب النزاع داخل مضيق تايوان، ربما يقدم الساسة في واشنطن وتايبيه وأماكن أخرى على رفع الرهان بأنفسهم، فهم قد يسعون إلى استغلال لحظة ضعف بكين بغية تقييد طموحات الصين، أو لإضفاء طابع رسمي على استقلال تايوان، أو بهدف تقويض سيطرة الحزب الشيوعي الصيني على السلطة، وفي هذه الحال سيكون هناك خط رفيع فاصل بين السياسات "الحارة جداً" والسياسات "الباردة جداً"، ومع إطالة أمد الحرب ستغدو المقايضات أكثر صعوبة ودموية وتدميراً.

أما عامل التحدي الثاني فيتمثل بأن التصعيد الأفقي الأميركي، والذي يعني توسيع نطاق النزاع، قد لا يكون فعالاً اليوم كما كان في الماضي، فزيادة تمويل إستراتيجيات دفاع الحرمان يهدد بخنق الموارد المخصصة للوسائل والمنصات العسكرية الأكثر قدرة على تأمين التهديد بالعقاب، مثل قاذفات الشبح (الخفية) والغواصات المجهزة بصواريخ كروز، وعلى رغم مناقشة خبراء الإستراتيجيا الأميركيين إمكان فرض حصار غايته منع الصين من استيراد إمدادات الطاقة، فإن محطات الطاقة النووية ومصادر الطاقة المتجددة على الأراضي الصينية اليوم مسؤولة عن ثلث الطاقة التي تنتجها البلاد، مما يعني أن بكين باتت أكثر مناعة أمام حصار الطاقة، وتقليص واردات الصين من الوقود الأحفوري سيؤذيها مع مرور الوقت، لكن وضع تايوان في هذا المجال سيكون أشد خطورة بكثير، ولهذا فإن التحدي الأكبر أمام إستراتيجية الدفاع الوطنية لإدارة ترمب لا يتمثل في ما إذا كانت ستخصص الموارد والتمويل لإستراتيجية دفاع الحرمان من الفوز، بل بكيفية مواءمة هذه الأخيرة مع إستراتيجية العقاب، واعتمادهما معاً ضمن إطار ردع شامل ومتكامل.

لا شك في أن صد الهجوم الأولي على تايوان أمر ضروري لكنه ليس كافياً، إذ من دون خطة لإنهاء الحرب ستكون واشنطن أمام خطر تكرار نمط الإستراتيجية الأميركية في العراق وأفغانستان، ذلك النمط الذي انتقده كثير من المسؤولين في إدارة ترمب، والمتمثل في الانتصار في المعركة الأولى ثم خسارة الحرب، ولذا يمكن القول إنه إذا أرادت الولايات المتحدة ردع الصين فيتعين عليها إقناع القادة الصينيين بأن لديها إستراتيجية لا تغطي المراحل الأولى للنزاع وحسب، بل تشمل المرحلة الختامية من الحرب.

 

زاك كوبر هو باحث بارز في معهد "أميركان انتربرايز" وأستاذ محاضر في "جامعة برينستون" وهو مؤلف كتاب "مد الثروة: صعود الجيوش العظمى وأفولها" Tides of Fortune: The Rise and Decline of Great Militaries.

مترجم عن "فورين أفيرز"، 6 نوفمبر (تشرين الثاني)، 2025




إقرأ المزيد