"سوء التفاهم" الذي كاد يفجر بلاد الشام
هذا اليوم -

أقامت قوات الأمن الحكومية حاجزا في بلدة بصرى الحريري، شرق السويداء، لمنع مقاتلي العشائر المسلحين من التقدم نحو المدينة، 20 يوليو 2025 (أ ف ب)

كيف تدار بلداننا؟ وهل ما يجري فيها لا يمهد لمزيد من التشرذم الداخلي ويمهد للتدخلات الأجنبية على أنواعها؟

قبل أي حديث عن تدخل إسرائيلي في سوريا، أو تدخل تركي وإيراني وأميركي وخلافه، يجب النظر في مسؤولية أهل الأرض حكاماً وشعوباً في إيصال بلادهم (بل بلدانهم) إلى ما وصلت إليه.

فالانقسامات قائمة قبل أن يتدخل الآخرون، والآخرون يعبرون في الشقوق والانشقاقات، ومن دونها لا يمكنهم الولوج. القراءة مستحيلة في كتاب مغلق، فقط عندما تفتح الصفحات يمكن متابعة ما هو مكتوب. كذلك في بلداننا، سيصعب على أي طرف خارجي أن يدس أنفه ويمارس سياساته لو أن الدولة والمجتمع محصنان ضد التدخلات.

والتحصين ينبع من الداخل، وهو ما تفتقده دول المشرق العربي منذ عقود. فالأنظمة التي توالت على بغداد ودمشق وجعلت من بيروت تابعاً ومتنفساً، هي من تتحمل المسؤولية عن تعميق الانقسامات المجتمعية القائمة داخلها وتحويلها إلى عبوات متفجرة بدلاً من تفكيك صواعقها على طريق بناء دول المواطنية والقانون والازدهار.

انفجرت كوارث الانقسام في العراق بمجرد سقوط القبضة الحديدية لنظام صدام حسين لكنها كانت كامنة، ولم تسفر نتائج حكم آل الأسد في سوريا خلال نصف قرن سوى عن إبراز أسوأ مظاهر الردة والتخلف والتشتت في مجتمع قيل إنه مثالي في تمسكه بشعارات النهضة والعروبة، ودائماً ما كانت ارتدادات ما يحصل في البلدين تصل إلى الشاطئ اللبناني الجاهز أصلاً في انقساماته ونظامه الطائفي، لتلقي ما يحصل خارج حدوده سلباً وإيجاباً.

كانت التجربة الأخيرة للصدام في السويداء السورية نموذجاً للفشل وارتداداته. فالدولة السورية الجديدة التي حلت محل النظام العسكري الحديدي الراحل اعتقدت بإمكانية بسط سلطتها بالقوة في مناطق شاركتها الانتفاضة على النظام من دون أن تشاركها رؤاها الاجتماعية والفكرية، وما يصح في السويداء يمكن أن يصح في المناطق السورية الكردية، ولدى أقليات دينية ومناطقية أخرى.

والمشكلة ليست في رغبة الدولة في بسط نفوذها فهذا حقها وواجبها، لكن هل الدولة جاهزة؟ وما هي أدواتها المتاحة لبسط نفوذها؟

لقد تبين أن الدولة ليست جاهزة بمعنى استكمالها الاستعدادات السياسية والدستورية عبر الحوارات المعمقة مع مختلف فئات المجتمع، وظهر كذلك أن أدوات بسط السلطة ليست على قدر المسؤولية. فليس سراً أن تركيبة القوى الأمنية الرسمية لا تزال محكومة بالعقل والمنهج الفصائلي التكفيري الذي تمكنت "هيئة تحرير الشام" من قيادته في معركة الاستيلاء على السلطة، وبهذا المعنى يصعب الحديث عن جيش عربي سوري أو عن قوات أمن عام بالمعنى المتعارف عليه، يقومان بمهام نشر الأمن وبسط سلطة القانون.

والمسألة لا تتعلق فقط بالسويداء بوصفها عاصمة الدروز في سوريا، فالأمن الرسمي ذاته واجه مشكلات مماثلة مع فصائل من "فريقه" في درعا، وخاض معارك لفرض السلطة في مناطق العلويين يصعب اعتبارها مثالية. وفي الصدام الأخير داخل السويداء، تكررت مشاهد الفوضى التي لم يكن تتويجها بالاستنفار العشائري موفقاً في تبييض وجه وسلوك السلطات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تحتاج سوريا المنتصرة على الديكتاتورية خلال مرحلتها الانتقالية إلى أكثر من استعجال فرض السلطة. فاستكمال الحوار الداخلي أمر أساسي، وبناء الثقة عليه أن يسير سوية مع بناء المؤسسات بما فيها المؤسسة العسكرية التي لم يعرف إلى أي حد استفادت من كفاءات أكثر من 6 آلاف ضابط، تركوا نظام الأسد والتحقوا بالجيش الحر في حينه وأكثرهم لم يجد مكاناً له في صيغة الجيش الجديدة.

تتيح التشققات الداخلية والتأخير في الاستجابة لموجبات المرحلة الجديدة، للخارج، فرصاً كثيرة للتدخل من أجل تحقيق مصالحه. ولا يتعلق الأمر بإسرائيل وحدها، التي اغتنمت فرصة الحدث السوري لتوسيع نفوذها شمال الجولان والإعلان صراحة أنها تريد منطقة منزوعة السلاح تشمل الجنوب السوري. والاستعجال الإسرائيلي يستند إلى تفكك المشهد السوري الداخلي، بقدر ما يدفع الاستعجال الأميركي القيادة السورية إلى حسابات غير مدروسة. لقد عدت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب أن ما جرى في السويداء هو نتيجة "سوء فهم" بين إسرائيل والقيادة السورية، جرى حله في النهاية بتفاهم بين الطرفين ولكن بعد دمار كبير في جبل العرب وسقوط نحو ألف ضحية من أبناء سوريا.

لكن كيف نشأ "سوء التفاهم" هذا الذي كاد يفجر المنطقة؟

إنه على الأرجح نتيجة استعجال جهتين أساسيتين، إسرائيل التي تسعى لتوظيف تفوقها العسكري في إنجازات سياسية ملموسة، والولايات المتحدة التي انخرطت بقوة في دعم النظام السوري الجديد وشجعته على بسط سلطته على الأراضي كافة.

خلال الـ13 من مايو (أيار) الماضي أعلن ترمب عزمه رفع العقوبات عن سوريا، وسرعان ما أوفد مبعوثه توم باراك إلى سوريا لمتابعة النقاط الخمس التي آثارها الرئيس الأميركي والتي تشمل، الانضمام إلى اتفاقات أبراهام ومعالجة تحدي المقاتلين الأجانب وطرد الجماعات الفلسطينية "المتطرفة" ومواصلة الحرب ضد "داعش"، والسيطرة على مراكز الاحتجاز التي تضم أعضاء في التنظيم وعائلاتهم.

تجاوبت إدارة الرئيس أحمد الشرع بسرعة، ودفعتها تصريحات باراك عن حصر السلطة في دمشق، ثم تحذيره للبنانيين بأن طرابلس قد تعود إلى "بلاد الشام"، وبعدها اللقاء الأمني مع إسرائيل في باكو، إلى استعجال الدخول في حوران كتوطئة للتوسع في مناطق الأكراد، لكن تلك الخطوة كانت بمثابة الدوس على لغم سينفجر بالجميع. إن "سوء التفاهم" الذي سيتحدث عنه ترمب ووزير خارجيته ماركو روبيو ومبعوثه توم باراك كاد يطيح بلاد الشام، وليس فقط بمهمة إعادة السويداء أو طرابلس الشام إليها.

فالنار في الجنوب السوري امتدت إلى كل سوريا ومحيطها، واستنفار العشائر على أسس مذهبية جعل المشرق ساحة عشائر متداخلة، ووضع لبنان تحديداً على محك الانفجار مرة أخرى.

لم تول إدارة ترمب أولوية لإعادة بناء الدولة في سوريا بقدر ما اهتمت بوضع جدول أعمال تمتحن عبره إدارتها الجديدة في قضيتي السلام مع إسرائيل ومكافحة الإرهاب بما في ذلك منع عودة النفوذ الإيراني. وهذا ما تمارسه تقريباً في لبنان عندما يقتصر تركيزها على نزع السلاح لمنع تهديدات مستقبلية لإسرائيل، وليس للضغط من أجل بناء دولة عصرية تتخطى الانقسام والفساد وتدفن عوامل تجدد النزاعات المذهبية والطائفية، وهذه مهمة لا تقتصر على لبنان وسوريا فقط بل تشمل العراق خصوصاً ونقاطاً عربية ساخنة أخرى.

خلال الساعات الأخيرة بدا أن إدارة ترمب تنبهت إلى هذه الحقائق، وساعدها في ذلك الموقف العربي الموحد تجاه دعم سوريا وإدانة التدخل الإسرائيلي وأهدافه المعلنة، وعليه ستعود أولوية المساعدة في بناء الدولة إلى الواجهة قبل أن يطلب من هذه الدولة تنفيذ مهام تنحصر في الاستجابة لمطالب إسرائيلية أو أميركية. وفي هذه النقطة بالذات سيمتحن الموقف الدولي من تحولات سوريا ومستقبلها، ومن مستقبل "بلاد الشام" التي اكتشفها مبعوث ترمب وكادت تنفجر بسبب "سوء التفاهم" وإفرازاته المميتة.




إقرأ المزيد